مستشفى حكومي …

حديث الأحد

وأنا أحتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد، رن هاتفي وكانت مكالمة “واتساب” واردة من صديقي “رشيد” …

استغربت من الاتصال لأنني منذ أيام وانا أحاول التواصل معه، وهاتفه مغلق، فقلت لعله خير …

بادرني بالقول :
مرحبا عزيزي، كيف حالك ؟ اعتذر كثيرا، فلم اتواصل معك كل هذه المدة، لأن هاتفي كان خارج التغطية، فأنا في المستشفى … !

في المستشفى؟ خير ما الذي أصابك ؟

لا شيء، مجرد فحوصات عادية دورية أقوم بها سنويا للتأكد من أوضاعي الصحية …

فقلت : الحمد لله، أتعرف يا أخي “رشيد” ولو أنني من مهنيي الصحة، ولكني لا أحبذ كثيرا زيارة المستشفيات، خصوصا تلك التي تكون اوضاعها لا تَسُر

لا لا اطلاقا أخي سعد ! أجابني صديقي، هذا المستشفى مختلف تماما عما تعرف، وتجربتي الشخصية هنا مختلفة تماما، فدعني أحكي لك ما حدث معي فيه، وهو على فكرة مستشفى حكومي مئة في المئة …

فقال : قَدِمْتُ إلى هنا وكان أول ما أثار انتباهي شكل المبنى من الخارج وكأنه فندق من خمسة نجوم، حديقة خضراء تسر الناظرين، ونافورات مياة متدفقة، وأشجار مرتبة بطريقة عجيبة، بحيث حولتها أيادي البستاني إلى منحوتات جميلة على أشكال مختلفة من حيوانات وطيور …

وفي أرجاء هذا البستان الجميل وجدت عدد كبير من المرضى يستمتعون بالجو اللطيف، فمنهم من يمارس رياضة المشي، ومنهم من يتجاذب أطراف الحديث مع مرضى آخرين، ومن هو فقط جالس فوق كراسي الحديقة، يمتع ناظريه بالماء والخضرة … والوجه الحسن ..

وعند الدخول توجهت صوب مكتب الاستقبال فوجدت المكلف هناك، شاب جميل المحيا نظيف الثياب، وعلى صدره شارة معلقة و مكتوب عليها اسمه “يحيى” وتحتها صفته المهنية “موظف استقبالات” …
وبادرني بالقول :
مرحبا بك سيدي ، كيف يمكن أن أخدمك ؟

قدمت نفسي واخبرته بأني قد حجزت موعد سابق على الانترنت، واعطيته أوراق تعريفي ومعلومات الحجز …

أدخل “الشاب يحيى” المعلومات بسرعة للحاسوب الموجود أمامه، وبعد التأكد من أن كل شيء على ما يرام، طلب مني الجلوس في قاعة الانتظار حتى يأتي أحدهم لمرافقتي إلى حيث سأجري الفحوصات اللازمة …
القاعة كانت مريحة، كراسي من كل الألوان الزاهية، وفي أطرافها طاولة عليها قوارير من ماء مجاني مخصص للمنتظرين من المرضى وذويهم …

وما إن استقر بي المقام في مجلسي لبضعة دقائق، حتى قَدِمَتْ نحوي ممرضة شابة في مقتبل العمر، وتعلو وجهها ابتسامة، عنوان لخليط من الطيبوبة والإنسانية، تَقَدَّمَت نحوي، سلمت علي وقدمت نفسها “انا الممرضة ملاك” وطلبت مني مرافقتها للغرفة التي سأستقر بها لابدأ بعدها الإجراءات الطبية …

عبرنا معا ممرات المستشفى، وكانت على مستوى عالي من النظافة، وأنت في طريقك تسمع كلمات السلام والترحيب من كل من يصادفك من أطباء وممرضين وعمال نظافة وكل العاملين في المستشفى، تحس كأنهم يعلمون أنك هنا اضطرريا، فيقدمون لك هذا الدعم المعنوي البسيط عن طريق السلام والابتسام …

دخلنا الغرفة التي سأقضي فيها اليومين القادمين، عبارة عن جناح صغير، ألوان حائطه زاهية، ورائحة الجو عطرة، يتوسط الغرفة سرير من الحجم الكبير، عليه فراش نظيف، ومرتب وكأنه مُعَدٌ لاستقبال عريسين في ليلة العمر، وفي جانبه فراش ثاني أصغر قليلا مخصص لشخص واحد مسموح له مرافقة المريض، والبقاء معه طيلة مدة الاستشفاء، أما الحمام أعزك الله (يقول صديقي) في حجم غرفة، كل شيء فيه ينطق نظافة، والمناشف من كل الاحجام وفوق كل هذا تجد علبة فيها كل الآلة نظافة الحمام، جديدة ومعقمة مهداة من طرف المستشفى “الحكومي” وعلمت أنها تمنح لكل المرضى، بداخلها كل شيء تقريبا حتى فرشاة ومعجون أسنان لم يلمسهم مخلوق من قبل … !

ألقيت جسدي على الفراش بحركة طفولية، ورفعت عيني لسقف الغرفة لأرى منظر غاية في الجمال، رسم يجسد السماء، بنجومها وكواكبها، وشهبها ونيازكها، منظر يسلب العقول ويجعل تفكيرك يسبح في ملكوت الله فيشعرك بالطمأنينة والهدوء، لدرجة تنسى معها أنك في مستشفى …

بعد لحظات من الهدوء والراحة النفسية، طرق الباب طارق، فدخلت علي الغرفة طبيبة، سلمت علي بدورها وقدمت نفسها “أنا الطبيبة جميلة” ، وطلبت مني مرافقتها لغرفة الفحص، دخلنا حجرة كبيرة فيها كل ما قد يتصوره، أو لا يتصوره عقلك من التجهيزات الطبية …

خلال ساعة من الزمن كنت قد خضعت لجميع الفحوصات الضرورية، وجاء تقني من مختبر التحاليل الطبية التابع للمستشفى وأخذ عينة من دمي وذهب به لعمل التحاليل الضرورية …
بعد إتمام كل هذه الإجراءات الطبية، طلبت مني الطبيبة الطيبة “جميلة” الرجوع لغرفتي للراحة واخبرتني بأنني سأمكث في المستشفى إلى الغد في انتظار نتائج تحاليل الدم، وعندما تتحصل على نتائج جميع الإجراءات التي خضعت لها ستعطيني التقييم النهائي لحالتي الصحية ..

عند حلول المساء، سمعت طرقا خفيفا على الباب، ومن وراءه أحدهم يخبرني بموعد وجبة العشاء، والتي تقدم في مطعم المستشفى بالنسبة لنزلاء المستشفى الذين لا تتطلب حالتهم تناول الطعام على سرير المرض …

عندما دخلت للمطعم وجدته في حالة من الرقي والتنظيم والنظافة لدرجة أحسست معها أنني داخل مطعم أوروبي فخم، فالطاولات مزينة، وكل ما عليها من كؤوس واطباق تلمع من النظافة، وبالنسبة للأكل فقد تم إعداد “بوفيه مفتوح” عليه كل ما لذ وطاب من الطعام … لحوم ودجاج وفواكه ومشروبات من كل نوع …

وبينما نحن نتناول طعامنا دخلت علينا للمطعم، سيدة يبدو عليها الوقار، تتجول بين الطاولات، تسلم على الجميع وتتفقد أحوال النزلاء، ولما اقترب من طاولتي، قرأت الشارة المعلقة على صدرها وعليها مكتوب “المديرة العامة خديجة” فالسيدة هي المسؤولة عن هذا المستشفى، وتقوم يوميا بهذه الزيارات لجميع مرافق المستشفى للتأكد من جودة الخدمات، وللسهر على سير العمل كما يجب …

في الصباح الباكر بعد تناول وجبة الإفطار، وبعد جولة في حديقة المستشفى واستنشاق الهواء الطيب، جاءت لاصطحابي الممرضة “ملاك” لمكتب الطبيبة “جميلة” حيث أخبرتني بوصول جميع النتائج المرتبطة بحالتي الصحية، وأنني في كامل عافيتي والحمد لله …

غادرت المستشفى بعد أن عملت جميع الفحوصات مجانا… !

نعم مجانا !

فلقد تم إدخال كل الفحوصات الطبية الأساسية في خانة الإجراءات الطبية المجانية التي يتمتع بها عموم المواطنين وكذلك زوار هذه البلاد، وبطبيعة الحال مع اشتراك سنوي بمبلغ بسيط في تأمينات تابعة للحكومة …

وانا عملت اشتراك فيها لأستفيد بدوري من هذا الامتياز …

فسألته مستغربا يا أخي “رشيد” تتحدث عن المستشفى وتقول في الاستقبال الشاب “يحيى” و”الدكتور الطيبة جميلة” و”المديرة السيدة خديجة” و”الممرضة ملاك ” !

هذه كلها أسامي عربية !!

فهل يوجد مثل هذا المستشفى في بلادنا العربية ؟

نعم أجابني صديقي، يوجد في مدينة تسمى “مستقبلستان” أي “مدينة المستقبل” التي أحلم بأن يعيش فيها أولادنا، أو ربما أحفادنا، أما نحن فيكفينا الحلم … !

أما فيما يخص هاتفي النقال الذي كان مغلق طوال هذا الوقت، فلقد وقع مني على الأرض وانكسر وطوال هذا الوقت لم يكن لدي ما يكفي من المال لشراء واحد جديد … !

هذا كل ما في الأمر عزيزي …!

لم أدري بماذا أجيبه ففضلت الصمت، وعندما لاحظ صديقي ذلك، اعتذر مني وقال أنه سينهي المكالمة، لأن زوجته تنتظره للذهاب للتسوق في السوق الأسبوعي، فهذا الصباح صباح يوم الأحد …

(إن أعجبك شاركه )

كتب : الدكتور سعد ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد