الضحية لبناني … والتبرعات للملهى الليلي..

حديث الأحد..

صباحكم سعيد من المقهى المعتاد الذي اتناول فيه قهوة الصباح، صباح يوم الأحد …

في انتظار بداية البرامج الصباحية الخاصة بمباريات كرة القدم، كانت شاشة التلفاز تعرض برنامج حوار سياسي على قناة “الميادين” المعروفة بتوجهاتها “الثورية القومية” واللقاء كان مع أحد زعماء التيارات السياسية اللبنانية الذي يحسب على تيار “المقاومة”، وكان الحديث يجري عن الانفتاح الذي تعرفه هذه الأيام العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية …

الضيف كان ينتقد هذه الدول بشدة ويقول أن الحل الوحيد مع “اسرائيل” هو المقاومة والسلاح وو …

وبينما هو يتكلم رجعت بي الذاكرة لعام 1996 عندما شنت إسرائيل الحرب على لبنان وكنا حينها طلبة في “أكاديمية الصيدلة ب “سانت بطرسبورغ” …

كنا صغار وقلوبنا تغلي تضامنا مع الشعب اللبناني، وفي تلك الأيام جاءنا إلى الحي الجامعي مجموعة من الرجال متوسطي العمر من جنسية لبنانية، وطلبوا من الطلبة اللقاء في إحدى قاعات الحي الجامعي للتحدث معنا حول ما يجري على أرض لبنان …

فجلسنا مع القوم، وبدؤوا في الحديث معنا حول معاناة اللبنانيين مع الحرب، وعن ضحاياها من النساء والاطفال، وأتذكر أنهم كانوا يحملون معهم صور لأطفال صغار، يقولون أنهم سقطوا ضحايا القصف الإسرائيلي على منطقة في لبنان تسمى “قانا” …

تأثر الجميع من رؤية تلك الصور وانهمرت الدموع من أعيننا أنهارا …
وفي الأخير طلبوا من الطلبة وكان أغلبهم من الجنسية المغربية، طلبوا التبرع لضحايا الحرب من الشعب اللبناني ..

سارع الجميع لغرفهم، وأحضر كل طالب ما استطاع من الدولارات لتقديم المساعدة، فكان منا من قدم عشرين دولار وكان هناك من قدم اكثر، خمسين، مئة ، مئتين دولار …

تلك الأموال التي كان الطلبة قد جلبوها معهم، حصيلة عرق جبين أولياء امورهم، تلك المبالغ المتواضعة كانت مخصصة للمعيشة، من أكل وشرب، وبالكاد تكفي لمصاريف سنة دراسية، خصوصا مع صعوبة تحويل الأموال في ذلك الزمن من بلد لآخر …

طلب منا اللبنانيين “جامعي التبرعات” طلبا أخيرا، قالوا انه ستنظم وقفة بعد يومين في مركز المدينة، احتجاجا على الحرب الإسرائيلية على لبنان، وقيل لنا أن تواجدنا معهم في تلك التظاهرة سيكون مهم جدا لنرسل رسالة للعالم ليتحرك ويوقف الحرب على شعبهم …

جاء اليوم المحدد للوقفة، وكنا هناك باعداد كبيرة، طلبة من جميع الجامعات وأغلبهم مغاربة، وعلمنا أن “الوفد اللبناني” قد قام بنفس الزيارة لأحياء جامعية أخرى، وأن الدعم والتبرعات نزلت عليهم مدرار في كل محطة مروا بها، والطلبة كانوا في قمة الكرم على ضعف ما يملكونه من أموال …

في الساحة نصب المنظمون مكبر صوت، يذيع اغاني حماسية عنوانها النضال والمقاومة وو … :

وين الملايين …
الشعب العربي وين …
الغضب العربي وين …
الدم العربي وين …

كنا في الساحة أكيد، وأكيد لم نكن بالملايين، ولكن الذي لم يكن هناك، هم الإخوة اللبنانيين الذين دعونا للوقفة الاحتجاجية … !

ولم يكن هناك أيضا طلبة من الشعوب التي لها مشكل مباشر، أو حدود مباشرة مع إسرائيل … مع أنهم بالآلاف في تلك المدينة !

كان هناك فقط اثنين أو ثلاثة أشخاص، حاملي الآلات التصوير يتجولون بين صفوفنا ويصوروننا، وكأن أحدهم طلب منهم ذلك، ربما ليبعثوا الصور لبلدهم ويقولون للمسؤولين هناك، لقد عملنا مجهودات جبارة لجمع الناس والتظاهر نصرة للقضية وضد الحرب، وربما كان هذا المطلوب …

جمعونا هناك كالقطيع، وتركونا وحدنا في الساحة في حيرة من أمرنا، نتسآل أين ذهب الوفد اللبناني “جامع التبرعات” ولماذا اختفوا عن الأنظار … !

بعد طول انتظار قررنا الرحيل والرجوع لصفوف الدراسة، خصوصا أن اغلبنا كان قد تخلف عن الدرس نصرة “للقضية” …!

وبعد أيام قليلة، علمنا أن البعض من اعضاء ذلك الوفد، كانوا من التجار الذين يملكون هناك في “سانت بطرسبورغ” محلات تجارية ومقاهي “شوارما” ونوادي ليلية عربية، من التي يسهر فيها المغتربون العرب على أنغام :

ياحبيبي
يلا نعيش بعيون الليل

يلا نعيش بعيون الليل
ونقول لشمس تعالي تعالي

تعالي تعالي
بعد سنة مش قبل سنة

بليلة حب حلوة !

ولاحقا وصلتنا أخبار وعلمنا أن أموال التبرعات لمصلحة ضحايا الحرب الإسرائيلية، ذهب للحرب على عقول السكراى في تلك النوادي الليلية … وكانت “الصدمة قوية ” …

هذا الحادث علمني شخصيا أن أعيد قراءة وفهم تصرفات بعض العرب، قبل أن احاول فهم ما الذي يحدث بين العرب وإسرائيل …

فالمعطيات الي عندنا تقول :

لقد مرت 74 سنة (تقريبا 27 الف يوم) منذ اعلان دولة إسرائيل واحتلال أرض فلسطين …

ومجموع مساحة الأرض الذي احتلتها إسرائيل هو 22 الف كلم مربع …

ولدينا مجموع الدول الإسلامية 57 دولة …

وبعملية حسابية بسيطة كان يكفي أن تقوم كل دولة إسلامية بتحرير 14 متر مربع (حجم غرفة نوم صغيرة) أو (حجم مطبخ متوسط الحجم) كل يوم من يد الإسرائيلين لمدة 74 سنة الماضية لتكون كل الأراضي العربية قد حررت الآن … !!

لم يفعلو كل هذا الوقت أي شيء يذكر … والكثيرون يظنون أنهم لن يفعلو ذلك في المستقبل القريب، أو ربما حتى المستقبل المتوسط و البعيد … بمثل العقلية التي تسيطر على الكثير من العرب من أمثال اعضاء ذلك الوفد الذي سلب منا أرزاقنا ونحن طلبة في تلك الأيام …

وعليه، فالسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو :

ما المانع ان تفكر كل دولة في مصلحتها الوطنية الخاصة، بعيدا عن الشعارات التي أثبتت عشرات السنين الماضية أنها خلقت فقط لاستغلال “القضية” من أجل المصالح الذاتية الضيقة فقط لبعض العرب ؟!

وماذا تبقى أصلا من العرب ؟!

و فجأه بينما أنا أفكر في هذا الأمر، انقطع إرسال القناة الإخبارية، وحول النادل إلى قناة رياضية، حيث للتو بدأت مباراة كرة القدم، وعلى وقع صراخ الجماهير في الملعب استرجعت تفكيري المشتت من الماضي إلى يومنا هذا، وإلى صباحنا هذا، صباح يوم الأحد.

 

كتب : الدكتور سعد ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد