قراءة في ألبوم صور

رغب إلي صديق لي أجل في إطلاعه على ألبوم صور هيئة الإنصاف والمصالحة الموجود بمكتبتي خاصة تلك التي تتعلق بأقاليمنا الصحراوية، غاص الرجل وجال بين عشرات الصور المتناثرة أمامه، تنهد أمامها،أرسل زفرات حارقة ومحرقة ،استوقفته سخرية الأقدار وهو ينظر بأم عينيه الفاحصتين بعضها الذي لا يستطيع قراءته إلا الخبير الخريت في دروب ومتاهات ،وملتويات ،ومنعرجات، ومطبات المشهد الحقوقي،الذي يراد له أحيانا أن يخرج عن أهدافه وغاياته.وكانت مفاجأته كبيرة أن وجد ضالته المنشودة.

رجعت به ذاكرته الوثابة، إلى زمن كان فيه فاعلا ومؤثرا، وشاهدا رئيسيا على تفاعلات المشهدين الحقوقي والسياسي في المنطقة.أخذ من الصور غايته ومبتغاه، وأتبع ذلك برغبة ملحة في أن أقوم -للتاريخ- بقراءة ولو مختصرة لهذا الكنز الثمين الموجود لدي.وهائنذا واستجابة لرغبته ألامس ولو من بعيد بعض هذه الصور


غطت هذه الصور بعض الفترات الممتدة مابين 07/01/2004 و 30/11/2005، يوم كان المغرب يكتب لنفسه إحدى أبهى وأنصع صفحاته المشرقة التي سيكون لها مابعدها خاصة في مجال حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون. كانت جهتنا الصحراوية كغيرها من جهات المملكة تموج على وقع ما عانته، وما كان باديا على أخاديدها من جراح وندوب وآثار تلك الحقبة السوداء، الناجمة عن سنوات الجمر والرصاص، والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي أقول دائما أنها أكبر دليل على مغربية الصحراء ،طالما أن هذه الأخيرة طالها من ذلك ما طال بقية جهات الوطن ،وفي نفس الفترة، وعلى نفس الأيادي،وبنفس الوسائل.(فالجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ). ولعل مجالات حقوق الإنسان والدفاع عنها، تختلف في الجهة الصحراوية عن غيرها من الجهات الوطنية.ذلك أن بعض الحاملين لرايتها، لهم حسابات أخرى أملتها عليهم علاقاتهم الخارجية، وهذا ماجعلهم بالضبط يجعلون منها قميص عثمان للدفاع عن أطاريح تمس بوحدة الوطن وسلامة أراضيه.

يعتقد الناظر، والمتمعن في هذا الركام من الصور، أن جَمْع أصحابها،عملٌ في المتناول، يمكن أن يقوم به في الزمان والمكان أي شخص كان، أو أية جهة مهما أوتيت من قوة. إلا أن الخبير في غليان وحراك الجهة الجنوبية في تلك الفترة ،خاصة بعد الإعلان عن إنشاء الهيئة، يدرك أن تلك اللقاءات كانت من سابع المستحيلات، أما التعاون معنا كأعضاء حد التماهي ،خاصة مع المكلف بملف الجهة ، فهذا ما كان بالنسبة لنا ضربا من ضروب الخيال. هذا ماكنت أراه بأم عيني، وأعيه بحكم الإنتماء، وأعيشه انطلاقا من مسؤوليتي القضائية، وأنا حينئذ رئيسا أولا لمحكمة الإستئناف بالعيون، حيث المحاكمات لاتكاد تنقطع والاحتجاجات لاتتوقف، واتهامات النشطاء..تصلنا شظاياها في كل وقت وحين. ولكن ما إن شرعنا في القيام بما نحن مكلفون به ،وبدأت في التحضير للقيام بما أنيط بي من إشراف على بعض ما يتعلق بتلك الجهات، حتى تبين لي صدق مقولة نيلسون مانديلا:يبدو الأمر دائما مستحيلا حتى يتم تحقيقه. قيل لي الكثير من طرف جهات رسمية، وأخرى لها علاقة بما نحن مكلفون به، بالإضافة إلى ما أعرفه شخصيا، رسمت أمامي لوحة قاتمة السواد، تشامخت في وجهي وتسامقت جبال المحال، وغير الممكن لما نحن قادمون عليه وعازمون على القيام به، ولكن سرعان ما تذكرت، وأنا الذي أتحمل العبء الأكبر بحكم ماهو منوط بي أقوال عدة سمعتها من قبل:

-أنا لا أثق بالكلمات أثق بالصور.
-في التصوير الفوتوغرافي هناك حقيقية خفية لدرجة أنها تصبح أكثر واقعية من الواقع.

صور عدة أرخت للقاءات لنا في هذه الجهة أو تلك، رأيت خلالها من كانوا ينعتون بأنهم أكثر تطرفا، ضد الوطن، وأسرف اشمئزازا وتشاؤما تجاه الهيئة،وأعتى من يقف في وجهها لدرجة أنهم حملوا مشعل مقاطعتها ومقاطعة من يتعامل معها. يؤثثون المشهد، ويتسابقون الى صفوفه الأولى، لكي لا تخطئهم عدسة التصوير، فهذه العشرات بل المئات من الساكنة رجالا ونساء، يقبلون زرافات ووحدانا،كانوا ضحايا أو من ذوي الضحايا. مداخلاتهم تدمي القلوب ويشيب لسماعها الولدان،ولكنها لم تتعد المرغوب فيه، عكس ما كنا نتوقعه أو نخشاه. لم يتجاوز أحد منهم ولا منهن-وهذه شهادة للتاريخ إن لم تخن الذاكرة-الخطوط المرسومة لنا.

هناك تشنجات واضحة من خلال الصور، وكذلك حركات تنم عن عدم الرضا ،وهذا ما لاحظناه في جميع الجهات، وما كنا نتوقعه،ولكن الذي لم يخطر لنا على بال، ولا كان لنا في الحسبان، أو لبعضنا على الأصح، هو أن تؤرخ لنا هذه الصور مشكورة، هذه المجموعات وهي تستمع إلينا وكأنما على رؤوسها الطير. يتعاملون معنا، يمدوننا بكثير معلومات حتى وإن كان بعضها يشوبه الخطأ (لحاجة في نفس يعقوب).ولكن منها ما كان الحصول عليه مستحيلا. ويلبون زرافات ووحدانا ،أي استدعاء صادر عن الهيئة. تتراءى أمامي في الصف الأول تلك المرأة الطاعنة في السن، وهي التي تتزعم…جالسة في صمت مهيب،وبجانبها ذاك الذي كان ينعت بأنه أشرس من تعرفه الساحة (الحقوقية)، وبجانبهما ذلك الثنائي النسوي الذي له قوة في الساحة يعتقد أنها لا تقهر. وغير بعيد عنهما ذلك الثور الهائج الذي لا يبارى ولا يجارى في حلبات صراع الثيران(الحقوقية)،وحول الجميع من الجموع الغفيرة، ما لايصدقه العقل. وأنا أمعن النظر في هذه الصور،رجعت بي الذاكرة إلى جلسة الاستماع الأولى،المبثوثة مباشرة على القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية، وتلك اللحظة التي أصر فيها الرئيس بنزكري أن أجلس بجانبه ومن ورائنا العضوان بودرقة وبنيوب،وجلوس بقية أعضاء الهيئة في الأماكن المخصصة لهم.

وجدت لذلك أحد الأسباب التالية ولعلها جميعها، أولاها أراد الرجل أن يربط مرحلة الانتهاكات بما كان عليه القضاء وما يجب أن يكون عليه في العهد الجديد، وثانيهما انتمائي للأقاليم الصحراوية التي عانت كغيرها من الجهات من ويلات سنوات الجمر والرصاص. إلا أن المناوئين لوحدتنا الترابية ولغرض معروف،كانوا أكثر تركيزا واهتماما بكل ما له علاقة بمجال حقوق الإنسان وثالثها ربما لخلفيتي الحقوقية حيث أتذكر جيدا، أنه تفاجأ حين أخبرته أنني من المؤسسين لفرع جمعية الحقوقيين المغاربة بأكادير سنة 1977 وأنا حينئذ نائبا لوكيل الملك. وهذا ما كان يدخل في إطار المستحيل.

أتذكر كذلك أن أحد الأعضاء الذي يحب كثيرا الظهور حاول في فترة الاستراحة الجلوس مكاني، فأثنيته عن ذلك وكذلك كان له بنزكري بالمرصاد مصرا عللى جلوسي بجانبه إلى نهاية الجلسة.

صور أخرى لفتت انتباهي كغيرها، تلك التي تتعلق بلحظة دخولنا للمعتقل الشهير درب مولاي الشريف،تلك الليلة التي قال عنها عبد الرحمان اليوسفي، نقلا عن مبارك بودرقة:أن الهيئة كتبت من خلالها الفصل ما قبل الأخير من المعركة الشرسة للديمقراطية.كان التأثر باديا على الأوجه، والحزن والأسى يخيمان على الحاضرين، أغلبهم يتذكر مئاسي ومواجيع لن تنمحي من الذاكرة، يجرون ذكريات تقشعر لها الأبدان وتشيب لذكراها الولدان.ولكن ما لا يمكن نسيانه بالنسبة لي في تلك اللحظة ،هو صبر وتجلد وتحمل من كنت أسميها، واسطة عقدنا ،لطيفة اجبابدي ،أبدت لطيفة من الكبرياء والأنفة والشموخ والعزة،ما يعتقد معه أن المعتقل كان بالنسبة لها حديقة للنزهة والترفيه،لكن سرعان ما تنهار، وتتسابق دموعها الهطالة، ومياه عيونها المدرارة نحو الأرض، حينما تستمع الى النساء ضحايا تلك الانتهاكات، وكيف لا وهن اللواتي أصبن في اختيالهن، وتبخترهن، وتبجحهن، هذه ثكلى، وأخرى أرملة،وتلك مصابة بعاهة مستديمة، وبعضهن كوابيس الخوف والهلع مازالت تقض مضاجعهن.

في هذه الصورة أو تلك تواسي لطيفة بعناقها الحار، تتألم لألم البعض، وتتوجع لمواجيعه..وتنشد الرحمة والمغفرة لموتى الآخرين. صور كثيرة أمامي أعتبرها من تناقض الخيال، إن جاز أن يكون للخيال تنافض،سأقتصر على صنفين منها:
– تلك التي يتراءى لي من خلالها من كانوا ينعتون ،ويوصفون لي، بأنهم أبعد عنا من الثريا،حتى أن منهم من كان يصارحني القول بذلك، فإذا بالأقدار مشكورة تأبى إلا أن تكشف لي أنهم أقرب إلينا من حبل الوريد.
– صور لذلك الثلاثي الذي رغبت إلى الرئيس بنزكري في التحاقه بمقر الهيئة بالرباط بصفتهم متعاونين معنا، وهم :بابا ميارة،إبراهيم لغزال،وامهمد مخلوف. وكانت مفاجأتي كبيرة، أن أدار لي أحدهم ظهر المجن، حين وجدته جالسا على المكتب المخصص لي بجانب مكتب أحد الأعضاء، ولم يكلف نفسه عناء السلام علي، مما اضطررت معه الى إفهامه بأن ذلك المكتب مخصص لي.
إنها حقا صورة سمجة وقذرة لسخرية الأقدار.

أقف وقفة تقدير وإكبار عند صور الذكرى الأربعينية لوفاة أسد جسور من أسود المقاومة وجيش التحرير في أقاليمنا الصحراوية المغربية، إنه المرحوم سيدح ولد ميارة. أتذكر جيدا أنه حين استقباله لنا في منزله برئاسة بنزكري، بعد محاولات عدة باءت بالفشل، وبعدما زرته بطلب من بعض أقربائه، قصد اقناعه واستجابته لطلبي رحمة الله عليه، خاطب ادريس بنزكري قائلا: (عليك أن تعلم أن استقبالي لكم مرده تقديري للذي رغب إلي في ذلك، ونحن يكفينا فخرا أن جلالة الملك عين في هيئتكم، إبنا من أبنائنا، ينوب عنا، ويحس بإحساسنا، ويتألم لآلامنا..). إنها الغيرة على ساكنة الجهة، والإعتزاز بأبنائها، دون الإلتفات الى القبيلة والأسرة والقرابة.
أكاد أجد في ذلك الألبوم، حضورا متميزا للتين توصفان في الساحة (الحقوقية) الجنوبية بأنهما من أكبر المدافعات عن تلك الحقوق، ومن أكثر كذلك من كان يعارض الهيئة ووجودها بالمناطق الجنوبية، بل أكثر من دعا إلى مقاطعتها، وعرقلة عملها هناك.
هي مفاجئات مضحكة ومسلية، ولكنها كذلك تحتاج إلى محلل سياسي ونفساني، له خبرة كبيرة في فك تلك الطلاسم وقراءة ما بين السطور. وهكذا أكون قد حاولت ولو من بعيد ملامسة،ما بين سطور هذه الصور ،استجابة لرغبة الحاضر الغائب عنها،الذي لم أر له أثرا فيها، علما بأنه في طليعة القلائل الذين يرجع لهم الفضل في إثراء الساحة الجنوبية نضاليا،وإغناء المشهد الحقوقي، وترسيخ ثقافة وأهداف وغايات..دولة الحق والقانون، بعيدا عن كل مزايدة، وتطلع…ومقابل… لقد ذللت خبرته الكبيرة، في المشهد الحقوقي الصحراوي الكثير من الصعاب، وساهمت إلى حد كبير ، علاقاته المميزة وطيب خلقه الحقوقي والنضالي في ما وصلنا إليه في صمت ونكران ذات وبعد عن الأضواء . وهو الذي رغب إلي في قراءة هذا الألبوم، إنه الاستاذ:عبد المجيد بالغزال.

قراءات مختلفة، يوحيها النظر في هذا الألبوم خاصة إن نحن قارناها مع ما أصبح معاشا على أرض الواقع. ستبقى هذه الصور أكبر شاهد على فترة معينة عاشتها المنطقة، وساهم فيها كل من ضمته بتلقائية،وحماس،دون ضغط أو إكراه، أو قهر…
قيل أن أفضل شيء في الصور هو أنها لا تتغير أبدا حتى عندما يتغير الأشخاص فيها،وكيف لا
والتصوير الفوتوغرافي كما يقال يساعد الناس على الرؤية.
أتذكر هنا عبارة قالها (برونو باربي) عن التصوير:التصوير الفوتوغرافي هو اللغة الوحيدة التي يمكن فهمها في جميع أنحاء العالم. مقولة رائعة، وأروع منها تلك التي قالها (جيل بيرس): أنا لا أثق بالكلمات أثق بالصور. لابد من الوقوف وقفة تقدير وإكبار إلى الذين تكاد لاتخلوا منهم صورة من هذه الصور، وهم الأعضاء الذين تحملوا وإياي عبء ما قمنا به داخل أقاليمنا الجنوبية والسرور والإنشراح والتفاؤل لم يغادروا محيا كل منهم إنهم السادة: مبارك بودرقة،محمد النشناش، أحمد شوقي بنيوب، لطيفة اجبابدي، وصلاح الوديع. ولن أنسى كذلك الطاقم الإداري المصاحب لنا، خاصة المناضل الملتزم، الذي لا تفارق الإبتسامة محياه، ولا الطيبوبة والأخلاق الحقوقية تصرفاته،عبد الحق مصدق.
هي محطة تاريخية ما كان لها أن تكون، لو لم يضع جلالة الملك لبنتها الأولى منذ اعتلائه عرش آبائه المنعمين ويسهر على أن تصل سفينتها مرفأ السلامة. محطة أرخت لها عدسات المصورين، ستبقى شاهدة على ما قمنا به، خاصة ما قام به بعضنا في صمت، وبدون صخب وضجيج، وما كان لذلك أن يتحقق، لو لم يكن هناك رجال استثنائيون عسى أن لا تطال بعضهم ذاكرة السمك.

بقلم: ذ ماءالعينين ماءالعينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد