على هامش الذكرى العشرينية لتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة

هل مازلتم في الرباط،أم غادرتموه صوب المطار؟ بعد الاجتماع مباشرة جعلته قبلتي،وهائنذا به.

عليكم العدول عن السفر والالتحاق حالا بمكتب السيد وزير العدل. 
هذا ماتم بالضبط ذات يوم من أيام شهر دجنبر من سنة 2003 .حيث  هنأني الوزير بالثقة الملكية التي حظيت بها باختياري عضوا بهيئة الإنصاف والمصالحة، وأن علي البقاء في العاصمة إلى أن يتم تنصيب الهيئة من طرف جلالة الملك. 

وفي نفس الشهر صدر بلاغ الديوان الملكي القاضي بتعيين الأعضاء وتنصيبهم رسميا بعد استقبالهم من طرف جلالة الملك، وهم تبعا لما أذيع رسميا:
الرئيس إدريس بنزكري،أحمد شوقي بنيوب،عبد العزيز بنزاكور، محمد مصطفى الريسوني، مبارك بودرقة، المحجوب الهيبة، محمد بردوزي،لطيفة اجبابدي،مصطفى اليزناسني،عبد اللطيف المنوني، ابراهيم بوطالب،ماءالعينين ماءالعينين، صلاح الوديع، عبد العزيز بناني، إدريس اليزامي، عبد الحي المودن،ومحمد النشناش.

ليس من همي تقييم عمل الهيئة،فهذا شأن المؤرخ، والباحث في مجال العدالة الانتقالية بالبلد، وإن كنت على يقين تام بأن التجربة جعلت من المغرب بلدا فريدا ومتفردا في محيطه الإقليمي والقاري،في مجال حقوق الإنسان. ومن بين الدول الكبيرة والرائدة في مجال العدالة الإنتقالية على الصعيد الدولي. 

     سأكتفي في هذه المقالة التي أكتبها بالتماعات خاصة عن تجربتي في هذه الهيئة. رغم وضعيتي الصحية التي حالت دون الاستجابة
لدعوة تلقيتها من طرف السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان للحضور يومه للإحتفال 
بالذكرى20 لإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة.
      لقد كان للطلبات العادلة والمشروعة للمجتمع المغربي (أحزاب سياسية،نقابات، مجتمع مدني،
عائلات الضحايا…)،الأثر الأكبر في التحول الحقوقي الذي شهده المغرب. ولكن لو لم تكن هناك إرادة 
ملكية قوية، واستجابة سامية وعميقة من طرف جلالة الملك الحسن الثاني ،ومن بعده وارث سره 
جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، لما وصلنا إلى  ذلك اليوم الذي أصبحت له حمولة رمزية 
يعتز بها الوطن.بل أقول إنه لو لم يكن هناك إيمان راسخ وثابت بمبادئ وأهداف،وغايات العدالة الانتقالية. وتشبع كبير بقيم ومبادئ حقوق الإنسان من طرف الجالس على العرش، لما وصلنا إلى شاطئ النجاة الذي رست فيه سفينة هيئة الإنصاف والمصالحة بميناء السلام، بعد ما أبحرت بأمواج متلاطمة وعاتية، ما إن تنجو سفينتنا من إحداها حتى ترتطم بأخرى أخطر وأعتى منها.

كانت تموج في الساحة الوطنية تطلعات عادلة ومشروعة للمجتمع ترمي إلى معرفة الحقيقة والكشف عنها وترتيب الآثار الناجمة عن ذلك. ولكن كانت كذلك وهذا هو الأهم الإرادة السياسة العليا في البلد، وراء ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان والنهوض بها ثقافة وممارسة، من أجل الطي النهائي لملف شائك ضمن مسار انطلق منذ بداية التسعينيات والذي شكل ترسيخه أول ما اتخذه جلالة الملك محمد السادس من قرارات غداة اعتلائه العرش، ووطد أركانه بتاريخ 7 يناير 2004 غداة تنصيبه لهيئة الإنصاف والمصالحة بأغادير.

ربان الباخرة كان قائدا استثنائيا، وإلا لما استطاعت سفينتنا أن تمخر عباب ذلك البحر الهائج، بل لما استطاعت ذلك بفعل المتناقضات الموجودة على ظهرها… والتي لا يمكن أن يجمعها ويسير بها قدما إلى الوجهة المطلوبة إلا قبطان ماهر إسمه ادريس بن زكري.

كان بن زكري الوحيد الذي اجتمعت فيه خصال المهندس الماهر والحاذق ، ولكن وكما قلت في مقالة سابقة وجد معه طوبوغرافيا قادرا على تأمين الممتلكات، وتخطيط المناطق، مع ضمان الإمتثال للمعايير.
محطات خاصة ستبقى عالقة بالبال من بين محطات عدة، منها مايتعلق بعمل الهيئة مركزيا ومنها ما يتعلق بعملها جهويا أي بالجهات الصحراوية المغربية التي كنت مكلفا مع بعض الأعضاء بملفها.

* إن كنت أنسى فلا أنسى البتة مساء يوم 21 دجنبر 2004, ذلك اليوم الذي انطلقت فيه أولى جلسات الاستماع العمومية، وما صاحب ولادتها من عسر وألم مخاض، كان مقررا ألا يتجاوز البث الساعة الثامنة مساء هكذا قال لنا بنزكري، وإذا نحن أمام مفاجأة سارة تمثلت في قرار جلالة الملك التاريخي وهو يتابع الجلسة العمومية – مع عموم النظارة منذ انطلاقتها بمنتهى التأثر كما أخبرني بذلك بنزكري- وذلك بإصدار أمره بعدم وقف البث وتركها تأخد وقتها كاملا 

* يوم 11 مارس 2004 كان بالنسبة لي يوما مشحونا بالعاطفة الجياشة، وهو اليوم الذي استقبلنا فيه عائلة المانوزي ممثلة بوالده ووالدته و أخيه. تذكرت تلك العلاقة الكبيرة والخاصة التي كانت تجمع الحاج عبد الله المانوزي وأسلافه، مع آبائي وهم يتنقلون بين جبال سوس وقراه لمحاربة الاستعمار الفرنسي وارتسمت أمامي تلك الدماء الطاهرة التي اختلط معها البرنوس السوسي مع الضراعة الصحراوية في سبيل الوطن وعزته وكرامته.

* أما اليوم الثاني الذي له كذلك علاقة بوجداني هو ذلك الذي اجتمعنا فيه بمقر الهيئة مع وفد يمثل عائلة المهدي بن بركة يضم إبنيه البشير وسعد رفقة محاميي العائلة الأستاذين موريس بوتان والنقيب عبد الرحيم بن بركة، تذكرت تلك العلاقة الاستثنائية التي كانت تجمع بن بركة وهو رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري الأول بعد الاستقلال بجدي الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماءالعينين العضو بنفس المجلس الذي كان يمثل منطقتي الصحراء وايت باعمران، وكذلك علاقته الحميمية مع والدي الشيخ محمد المصطفى.

* كان لدي هاجس يؤرقني منذ بداية انطلاق أشغالنا يتجلى في ما أومن به من ضرورة إعطاء أهمية خاصة للمعطى الثقافي، لكونه أساسيا في إثباث الهوية الصحراوية المغربية. كثيرا ما فاتحت ادريس بن زكري في الموضوع وألححت عليه في ذلك، وكذلك الصديقين امبارك بودرقة وشوقي بنيوب، مؤكدا لهم أهمية البعد الفكري والعامل الثقافي في الدفاع عن مغربية الصحراء. وهكذا كان لي ما أردت حينما كلفني الرئيس بنزكري بهذا الموضوع طالبا مني تحديد لائحة من المفكرين والمؤرخين والمهتمين بالأبعاد التاريخية والثقافية والعلمية لصحرائنا المغربية. وكان يوما مشهودا ذلك الذي استقبلنا فيه كوكبة مضيئة من لوامع الساحة العلمية والفكرية والثقافية بالبلد، وكان شعوري مضاعفا، وفرحتي متعاظمة حد التباهي والخيلاء والحاضرون كأنما على رؤوسهم الطير وهم يستمعون إلى أحد أكبر أبدار وشموس المعرفة والثقافة ليس في الجهة الصحراوية فحسب بل في الوطن ككل، وهو يغوص ويسبح، يجول ويمرح، في تاريخ المنطقة خاصة والوطن عامة ذلكم هو العالم الفقيه والشاعر الدكتور اشبيهن حمداتي ماءالعينين. إنه شعور بالإعتزاز لم ولن أستطيع إخفاءه، أتذكر جيدا أنني قلت له بالحسانية شعرا مضمونه:

إذا كنت في ناد من نوادي المعرفة وقد سبقك غيرك بالكلام ثم تكلمت فيجب تطبيق القاعدة النحوية إذا التقى ساكنان…  
* جهويا  أي في الجهات الصحراوية الثلاث التي كنت مكلفا ببعض ما يتعلق بها في إطار الهيئة أستطيع التأكيد على التالي: كان لإتقان العضو الدكتور النشناش للغة سيرفانتس ولما يتمتع به من مرح وأخلاق عالية، وكذلك لانتمائه لجهة الشمال التي كان يجمعها مع الجهة الجنوبية نفس المستعمر، الأثر البارز في تذليل الصعاب التي اعترضت عمل الهيئة في الجانب الصحي الذي كان مكلفا به.

* أؤكد من منطلق تكليفي بملفات عدة تتعلق بعمل الهيئة في المناطق الجنوبية أن ضحايا سنوات الجمر والرصاص والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو ذويهم انخرطوا وبطريقة تلقائية واختيار- بل أقول بإيمان كبير في نجاعة وأهمية التجربة- في العمل معنا جهويا ومركزيا، على كل ما يضمن نجاحها، بل أجزم أن أكثرهم تطرفا وجدنا فيه من الإعانة وإظهار الإيمان المطلق بالتجربة وتثمينها والمساعدة على تذليل الصعاب، ما لم يكن متوقعا.

* ما أولاه المرحوم إدريس بنزكري من عناية خاصة لكل ما يتعلق بالعدالة الانتقالية بالجهة الجنوبية وما يتميز به لدى ضحاياها، وعلاقته معهم من خلال تجربته السابقة كرئيس للمنتدى المغربي من أجل الإنصاف والمصالحة، سهل من مأموريتنا في تلك الجهات.

* تحضرني عدة أسماء حقوقية في المنطقة الجنوبية بعضها، قد يختلف هذا أو ذاك في الهدف من تبنيها لمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها، إلا أنه وللتاريخ أؤكد أن الرجل الذي كان يعيش مبادئ حقوق الإنسان ويتنفس أهدافها ويسعى إلى تحقيق مبادئها، المثالية والوطنية بعيدا عن كل ما يطرف البال ويطعن في الوطنية والغيرة على المقدسات هو المناضل الكبير والحقوقي بامتياز الأستاذ عبد المجيد بالغزال، استقبلته مرارا في مكتبي بمحكمة الاستئناف بالعيون وجالسته كذلك في عدة مناسبات وهذه هي الصورة الحقيقية التي مازالت عالقة بذهني عن الرجل.

هذه التماعات حضرتني في هذه الذكرى التي يخلدها المغرب اليوم بكل فخر واعتزاز. أردت الاسهام بها بهذه المناسبة.

ماءالعينين ماءالعينين
عضو هيئة الانصاف والمصالحة سابقا

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد