دراجة أبي …

حديث الأحد.

وأنا احتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد في أحد فنادق العاصمة الاقتصادية، المكان الذي نظم فيه منتدى اقتصادي دولي بمشاركة العشرات من الدول، والمئات من الفاعلين في حقل الاقتصاد، دخل إلى مقهى الفندق لتناول الإفطار أحد كبار رجال الأعمال بالبلاد، ولما لم يجد مكان شاغر، استأذن في الجلوس إلى طاولتي ..

فبادرني بالقول، أشعر بجوع فضيع، فلقد عدت للتو من حصة رياضة بالدراجة الهوائية، فمن مميزات هذا الفندق أنه يوفر هذه الخدمة لزبنائه، يقول جليسي …

قدم نسفه قائلا أنا فلان واشتغل في الحقل الفلاني، وبدوري عرفته على نفسي، وانطلقنا في دردشة خفيفة ولطيفة …

وبينما نحن كذلك تقدم للسلام عليه أحد رجال الأعمال المعروفين كذلك ولكن من مستوى أقل، فلم يتحرك من مكانه جليسي، ولم يقم للسلام عليه وكان بالكاد يرد على تحيته وسلامه بتحريك الرأس، في حين كان الآخر واقف كأنه تلميذ صف ابتدائي بين يدي ناظر المدرسة، جسمه كله يرتجف وهو يسلم على صاحبنا …

وعندما رحل التفت إلى “نديمي” وال ” النديم” في اللغة هو الجليس أو الأنيس، وعند العرب القدامى كانت تطلق على جليس الخمر، ولكنها تطلق كذلك على المرافق على الطعام …
وقال أراك استغربت طريقة تعاملي مع هذا الذي كان وقفا الآن بين يدي … !

خليني أقول لك السبب يا دكتور، عسى أن يبطل العجب !

أنا أعيش حالة غريبة، فلا أكاد أرى إلا الابتسامات على وجوه الجميع، الكل يتهلل وجهه للنظر إلي، الجميع يستقبلني بالترحاب وبفرح، الموظفين عندي يبتسمون في وجهي حتى عندما أوبخهم، أصحاب البنوك والشركات وكبار المسؤولين ينحنون عند السلام علي، موظفي وأصحاب المطاعم والمحلات التجارية الراقية يقفزون من الفرحة عند رؤيتي أدخل إلى محلاتهم، أقاربي وأصدقائي يفسحون لي الطريق عند مروري بينهم ويجعلوني أتقدم مواكبهم، ويخصصون لي صدر المجالس، يضحكون على أتفه النكت التي تخرج من فمي، ويثنون على كلامي وافكاري وآرائي حتى الاكثرها غباءا وبديهية، يصفوني بحكيم الزمان، وعقلية العصر الفذة التي لا تضاهيها العقول، كل هذا وأنا بداخلي أحس أن هذا مصطنع وليس حقيقي، وأنهم بدواخلهم قد يكونوا يحتقروني، ويعتبرونني حتى أقل شأن منهم، وأعلم علم اليقين أنها مجرد أطماع ومصالح … !

لقد سئمت كل هذا، وانا محتاج لناس يعاملونني بشكل طبيعي، يكلمونني بكل تلقائية، يبتسمون في وجهي بصدق، ويقطبون حواجبهم ان لم تعجبهم تصرفاتي، يناقشون أفكاري وينتقدون آرائي، يحسسوني أنني مجرد إنسان مثلهم … ولست حساب بنكي متنقل !

خليني أقول لك شيء يا دكتور …

وأنا صغير زمن الدراسة، كان والدي يوصلني كل صباح للمدرسة على ظهر دراجته التي كان يستقلها للذهاب للعمل، وفي الطريق نمر على الجيران وجلهم ناس بسطاء من عامة الشعب، ويلقي والدي التحية، بعضهم يرد بأحسن منها والبعض الآخر يكتفي بالإيماء بالرأس المثقل بالمشاغل والهموم …

أول محطة صباحية نمر منها هو صاحب الدكان المجاور لبيتنا “سي علي” يطلب منه والدي إرسال بعض الطلبيات التي تحتاجها أمي لإعداد طعام الغذاء إلى البيت مع صبي يشتغل معه، ونقف بعدها عند محلبة رجل طيب يستقبلنا دائما بابتسامة صباحية جميلة، يشتري لي أبي من عنده نصف درهم “حرشة” لأتناولها وقت الأستراحة بالمدرسة، و”الحرشة” هي نوع من الحلوى تصنع من السميد، والزيت والزبدة وتعجن بالماء، وبعدها نمر من أمام محل الجزار الذي ينظر لأبي نظرة غاضبة غير طيبة والسبب راجع لتأخر والدي عن أداء ما بدمته من دين مقابل كيلوغرام من اللحم كان قد اشتراه بمناسبة زيارة بعض الأقارب، وفي الطريق توقفنا جارتنا الحاجة “فاطنة” لتطلب من والدي المرور في طريقه على الإدارة التي كان يشتغل فيها زوجها المرحوم “الجيلالي” ويرى هل هناك من جديد في ما يخص المعاش التقاعدي الذي ما زالت تنتظره منذ وفاة زوجها قبل سنتين … والحاجة “فاطنة” رغم بؤسها وحالتها الصعبة لا تنسى سؤال أبي عن والدتي وكل أسرتي فردا فردا، وفي الآخر تخرج من جيب جلبابها القديم المهترئ قطعة حلوى تهديني أياها مصحوبة بسيل من الدعاء الجميل بالتوفيق والنجاح …

وعندما نصل باب المدرسة نجد عند البوابة الحارس واقف هناك ينظم عملية دخول التلاميذ، ويحرص على انجاز عمله بكل إخلاص وتفاني، وقد كان من معارف والدي القدامى، يدور بينهما حديث قصير، وتقريبا نفسه كل يوم، حول أحوالهما الشخصية، وأحوال الطقس وأحوال البلد، وهذه أمور قلما يطرأ فيها جديد، فينصرف والدي لعمله وأتوجه أنا صوب الصف الدراسي …

تلك الأيام، كان كل شيء فيها جميل وطبيعي وإنساني وعفوي، وانا راكب دراجة أبي كنت أرى كل شيء على حقيقته، ومشاعر الناس ظاهرة على وجوههم، وأنا الآن محتاج وأبحث عن ناس كالذين كنت أراهم وأنا راكب خلفه …

والله يا أخي صدقني عندما اقول لك بالنسبة لي دراجة أبي خير من طائرتي الخاصة …

وإلى الاسبوع المقبل.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد