جبل طارق …

حديث الأحد.

وأنا أحتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد بمقهى بعيد هذه المرة عن المكان المألوف، وبالضبط بمقهى صغير تحت فندق “Marina Victoria” بالجزيرة الخضراء، جنوب إسبانيا، وهذا المقهى لا يبعد كثيرا عن الميناء الذي يستقبل يوميا عدد كبير من البواخر التجارية وبواخر نقل المسافرين والمركبات …

وكنت قد وصلت الليلة الماضية من ميناء طنجة المدينة، عبر رحلة استغرقت ما يقرب من أربعين دقيقة عبر البحر …

هذا المقهى مملوك لمهاجر من أصل مغربي، ويحج إليه المهاجرين من جميع أنحاء المدينة، ويعتبر محطة استراحة بالنسبة للقادمين من شمال إفريقيا صوب مختلف البلدان الأوروبية …

دخل المقهى زوجان من ذوي البشرة الشقراء، وجلسا يتناولان فطورهما وبعد الإنتهاء سئلا النادل بلغة إسبانية ركيكة عن كيفية الذهاب إلى جبل طارق، وهو الذي يبعد عن هذا المكان بثلاثين كيلومترا تقريبا، وجبل طارق هو قطعة أرضية صغيرة ملتصقة بتراب المملكة الإسبانية، وتقع على ضفة البحر الأبيض المتوسط، وقد قلت أنها ملتصقة باسبانيا لسبب بسيط، فهي تابعة للتاج البريطاني بالرغم من تواجدها جغرافيا داخل إسبانيا …

لم يفهم النادل سؤال الزوجين، وأنا كنت قد لاحظت عند دخولهما أنهما يتحدثان باللغة الروسية، فتدخلت للمساعدة، بحكم إتقاني لتلك اللغة …

فقلت لهما أنه ومن حسن الحظ، أنا كذلك سأقوم بزيارة صخرة “جبل طارق ” هذا الصباح ويمكن لهم مرافقتي، فاعجبتهم الفكرة وأستقلينا الحافلة صوب وجهتنا …

وصلنا الحدود بين إسبانيا و “جبل طارق” وهناك الجميع مطالب بالقيام بالإجراءات القانونية التي تطبق عند الحدود الدولية كالادلاء بجواز السفر و التأشيرة، عبرنا الحدود وشاهدت بعيني أروع مشهد ممكن يصادفك، الطريق الذي نمر منها تخترق مدرج مطار المدينة، فبسبب ضيق وصغر المساحة، جبل طارق يتوفر على مطار فريد من نوعه، حيث المدرج الذي تنزل فيه الطيارة، جزء منه هو طريق عمومي، يتم فتحه طوال النهار لمرور الأشخاص والسيارات ويغلق لبضع دقائق بحبل طويل لتتمكن الطائرة من الهبوط على أرضية المطار، فتراها تنزل مباشرة أمامك على بعد عشرات الأمتار فقط … في منظر جميل ومذهل !

توغلنا أكثر في إتجاه مركز المدينة، حيث توجد محطة “التيلفيريك” التي تنقل الزوار والسياح من سطح الأرض إلى أعلى الجبل حيث يمكن للزائر أن يطل على مضيق جبل طارق من الأعلى في نقطة يلتقي فيها البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي، وتتراءى لك الجزيرة الخضراء الإسبانية من بعيد وفي مقابلها في الطرف الآخر أرض المملكة المغربية …

مشهد أقل ما يمكن يوصف به أنه ساحر … !

وفي أعلى قمة الصخرة تستقبلك قطعان من القردة تنتظر الزوار لتستمتع بما تجود به أيديهم من طعام وحلوه وبسكويت …

وبعد رجوعنا للأرض، فاجأني العامل المشرف على تشغيل “التيلفيريك” (والذي تظنه للوهلة من أهل البلد) بالسؤال وبالدارجة المغربية، هل أنت من المغرب ؟ أنا كذلك أصولي مغربية، ولكن أعيش هنا منذ أربعين عاما … !
واستطرد في الحديث يحكي قصة قدومه إلى هذا المكان، فقال: منذ عشرات السنين حدث خلاف بين الحاكم الإسباني السابق ” الجنرال فرانكو” والسلطات البريطانية فقرر “الجنرال” كرد فعل، الانتقام بمعاقبة جبل طارق فمنع الإسبان من الدخول إليه للعمل بهدف تعطيل الحركة الاقتصادية، حيث كان الاسبان يمثلون النسبة الكبيرة من اليد العاملة التي تسير “الجبل”، فلم تجد السلطات البريطانية من حل إلا اللجوء لليد العاملة المغربية للخروج من المأزق، فهكذا جئت إلى هنا أنا والعديد من الإخوة من المغرب، وأصبحنا جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع، نتمتع بالجنسية البريطانية وأولادنا ولدوا وترعرعوا هنا …

أكملنا جولتنا أنا ومرافقي الروسيين بجبل طارق ورجعنا إلى مكان إقامتنا بالفندق، بالجزيرة الخضراء، وعند وصولنا عرض علي الروسي وزوجته مرافقتهم للعشاء وقضاء السهرة معا، فرفضت عرضهما بلباقة وانسحبت …

وفي الليل بينما أنا نائم في غرفتي سمعت صوت صخب وضوضاء قادم من الرواق، واناس يصرخون بالاسبانية والروسية، حاولت أن اتجاهل تلك الأصوات ورجعت للنوم بسبب التعب الشديد …

وفي الصباح الباكر حملت حقيبتي للرحيل، وبينما موظف الاستقبال يقوم باجراءات تسجيل خروجي، سألته عن سبب الهرج والمرج الذي حدث البارحة ونحن نيام، فقال لي إنهما الزوجين الروسيين رجعا البارحة في وقت متأخر من الليل، وفي حالة من السكر الطافح، فتشاجرا في غرفتهما وكسرا محتويات الغرفة واضطررنا لاستدعاء الشرطة، فتم اعتقالهما واقتيادهما للمخفر، فحمدت الله أنني لم أقبل دعوتهما للعشاء والسهر، وإلا لحدث ما لم يكن في الحسبان …فحملت حقيبتي ورحلت.

وإلى الاسبوع المقبل.

كتب : الدكتور سعد ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد