السقوط الحر … !

حديث الأحد

وانا أحتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد، قرأت بعض المنشورات التي تتحدث عن توالي تساقط المسؤولين السياسيين والمنتخبين الكبار في قبضة القضاء بتهم ثقيلة، وبرغم من أنه لم يتم الفصل في تلك القضايا بعد، ولكن قصص حياة وصعود بعض أصحابها، وسقوطهم المدوي كذلك، ستلاحظ أن بينها تشابها كبيرا …

والحقيقة أن تاريخ الاشخاص يشبه تاريخ الدول، والأحداث كثيرا ما تتكرر مع اختلاف فقط، في أبطال وبعض تفاصيل هذه الأحداث … !

و في حالة هذه الشخصيات التي ذكرنا أنها بدأت تتساقط هذه الأيام، غالبا ما يبدأ الأمر بقصة إنسان بسيط، قد لا يكون له بالضرورة شأن يذكر، وتنضج ظروف ما، أو يستغل هو ظروفا تتاح له بطريقة أو بأخرى، وتفتح له في يوم من الأيام أبواب الصعود إلى القمة، وما أن يستقر في الأعالي، ويصاب بالثقة المفرطة في النفس لحد الغرور، يبدأ بمراكمة الأخطاء، وعندها يبدأ عنده مسلل الانحدار، الذي نادرا ما يكون آمنا …

ومن أبرز الأمثلة التاريخية على هذا، قصة الخليفة العباسي “هارون الرشيد” مع “البرامكة” …

والبرامكة هم أسرة رجل يدعى “يحي بن خالد البرمكي”، من أصول فارسية، حيث حالفه الحظ أن كان من المقربين من الخليفة العباسي “هارون الرشيد”، فهو أبوه من الرضاعة وكان يناديه “أبتي”، وعندما تولى هارون الحكم، أعطاه سلطات كبيرة وصلاحيات غير محدودة، هو أبنائه “جعفر” و “الفضل و”موسى” و”محمد” …

فبلغ نفودهم واستغلالهم لتلك المكانة حدودا غير مسبوقة، وأصبح مال الدولة يجري بين أيديهم أنهارا ووديانا، يشترون بها ولاء الناس، ويغدقون على المقربين والشعراء بمبالغ خيالية، وأصبح ذكرهم على كل لسان، ويتحركون في مواكب رسمية كبيرة، وأصبح ذوي الحاجات يتزاحمون على أبوابهم، يعيينون في المناصب من يشاؤون أينما يشاؤون، وضربوا جذورهم عميقا في كل مفاصل الدولة، وبطشوا وتجبرو وظلمو لدرجة التجرأ على تصفية وقتل بعض أهل البيت لمجرد الخوف من منافستهم سياسيا، فدانت لهم الرقاب والعباد وسائر البلاد …

بل ووصل الأمر أن الخليفة بنفسه أصبح يخشى نفوذهم المتعاظم، ومن غرائب الأمور أنه هو بنفسه لم يعد يمر من مكان، بساتين أو حدائق وأراضي وممتلكات وأسواق تجارية ويسأل عن أصحابها، إلا وقيل له أنها ملك “للبرامكة” …

وبمفهوم العصر الحالي، هذا هو ما يمكن أن يطلق عليه تسمية الفساد المالي والسياسي والاقتصادي، وهذا غالبا أصحابه يظنون أنهم فوق الحساب، ويعتقدون أنهم في حصانة ومأمن من العقاب، وأن الجميع بما فيهم السلطة والدولة لا غنى لها عنهم، حتى يصلهم الدور فيكتشفوا أنهم كانوا يعيشو في وهم كبير … !

وهذا بالضبط ما حدث ل “يحيى بن خالد البرمكي” وأبنائه، وفي أحد الأيام بعد أن ضاق ذرعا من تصرفاتهم، وبدون سابق إنذار، استدعى “الخليفة هارون الرشيد ” “جعفر بن يحيى البرمكي” الذي من شدة وقوة نفوذه كانت الناس تناديه ب “السلطان” وأمر بضرب عنقه، وأرسل حرسه الخاص لاعتقال بقية إخوته وأبوهم باستثناء “محمد” الذي لم يكن عليه أي مأخذ، فقضوا آخر أيامهم في السجن، ويُعَرِّفُ المؤرخون هذه القصة ب “نكبة البرامكة” …

وما فعلت بهم الدولة هو ببساطة ديدنها (طبيعتها وعادتها) مع هؤلاء وفي جميع الأزمنة، فترفع أقدار من يحالفهم الحظ منهم ما شاء الله من الوقت، ومن يتجاوز قدره تترك له هامش من المناورة حتى إذا ما استفحل أمره، تقطع دابره وتعوضه بمحظوظ أخر من الكثيرين الذين ينتظرون الدور بفارغ الصبر …

هكذا هو الأمر … !

وفي كل زمان وفي كل دولة برامكة، وقلما يكون مصيرهم مختلفا … !

وإلى الأسبوع المقبل.

كتب : الدكتور سعد ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد