مابعد كورونا ..الاستثمار في الشباب أولوية وطنية

منير الأمني 

   من المؤكد أن المغرب سيتجاوز مايعيشه من تأثيرات صحية لجائحة كورونا، كما تجاوز الكثير من المجاعات والأوبئة (الطاعون،الكوليرا،التيفوئيد..) في القرون السابقة، عندما عاش المغاربة خلالها لحظات صعبة تغلبوا عليها بتماسكهم وتضامنهم، وأكسبتهم القدرة على التكيف مع الأزمات، ومجابهة الظروف الصعبة والانتصار فيها في النهاية، مغلبين المصلحة الجماعية على الذاتية ومتشبثين بحب الوطن والتعلق بالأرض والحياة.

ورغم أن بلادنا مشغولة اليوم بكيفية تجاوز هذا الوباء، فإنه ينبغي طرح الأسئلة من الآن حول كيفية تحويل هذه المحنة إلى منحة إيجابية تخدم الوضع الاقتصادي والسياسي لبناء نموذج مستدام للتنمية ، على اعتبار أن الأزمات عبر الزمن شكلت محركا لعجلة التنمية ونقطة تحول مفصلية فتحت الباب أمام تغيرات جذرية على مجموعة من المستويات.
وفي هذا الصدد، يأتي فتح التجمع الوطني للأحرار للنقاش من أجل التفكير الجماعي وطرح الأسئلة التي تشكل الإجابة عنها مفاتيح أساسية لتلمس ملامح مغرب ما بعد كورونا الذي ينبغي أن يكون مختلفا عما قبل سيما وأنه قد أبلى بلاء حسنا في التعاطي مع هذه الجائحة باستباقية غير معهودة بفضل التلاحم القوي بين الملك والشعب وهو يجعله أمام مسؤولية عظيمة وتاريخية تشكل التعبئة المجتمعية الحالية دافعا قويا فيها نحو النهوض والاقلاع.
إن المغرب وبشهادة العديد من المتتبعين كان في الموعد عندما قام بمجموعة من الاجراءات التي خففت من وطأة استفحال الوباء حين اختار الإنسان على حساب الاقتصاد، هذا الاختيار الذي لم يكن اعتباطيا،ولا ينبغي أن يكون كذلك، على اعتبار أن الانسان هو مفتاح كل نهضة، وهومن بنى وسيبني الاقتصاد فيما بعد.
إن بناء مغرب ما بعد كورونا يجب أن يرتكزعلى أساس الاستثمار في المكون البشري بالتعليم والبحث العلمي، ولعل الاستثمار في الانسان يعني بالضرورة الاستثمار في الشباب باعتباره يشكل النسبة الأهم في الهرم السكاني المغربي و الفئة الأكثر نشاطا وقدرة على الإنتاج وعلى التأثير في الدورة الاقتصادية.
إن بلادنا تمتلك ثروة بشرية شبابية مهمة من شأن حسن استغلالها أن يساهم في تحريك عجلة التنمية وكل التحولات المجتمعية، لذلك فالرهان عن أي اقلاع تنموي لن يتحقق دون أن يكون الشباب في صلبه باعتباره يشكل حجر الزاوية في أي تقدم، فالصحة نفسها ليست سوى أطر صحية شابة متعلمة بشكل جيد لتكون في المستقبل أطباء وممرضين، والبحث العلمي ليس سوى ثمرة تعليم متطور ناجع وفعال، والتكنولوجيا في نهاية المطاف ليست الا محصلة لجهود الدولة والمجتمع في رعاية الابداع والتميز عند الشباب،الذي ينبغي أن نفتح أمامه الثقة والأمل في المستقبل كما ينبغي أن نقف عند المعيقات التي لا زالت تعترض اندماجه في مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتجعل شريحة كبيرة منه عرضة لمظاهر الهشاشة والاقصاء و تعيش على هامش النمو الاقتصادي المطرد الذي عرفته المملكة في السنوات الأخيرة رغم كل المجهودات التي تم القيام بها في هذا الصدد.
ففي مجال التربية والتكوين ماتزال اشكالات الهدر المدرسي والفوارق بين التعليم العمومي والخصوصي، ومشكل التوجيه نحو التخصصات التي تمكنهم بشكل جيد من الانخراط في سوق الشغل تشكل عائقا يحول دون تمتع جميع الشباب على صعيد المملكة بالحق في تعليم يضمن تكافؤ الفرص.
أما في ميدان الصحة فان الفوارق في الولوج الى العلاجات الأساسية والاستفادة من الخدمات الصحية، يجعل الشباب عرضة للعديد من الامراض والافات الاجتماعية الخطيرة، كما أن معدل البطالة في صفوف الشباب بالمغرب يظل مرتفعا في الوقت الذي يشتغل العديد منهم بالقطاع الغير المنظم وفي مناصب شغل تتسم بالهشاشة وبأجور زهيدة .
كل هذه العوامل ساهمت في عزلة نسبة كبيرة من الشباب وخلقت لديهم الإحساس بالحرمان والإحباط وجعلتهم يعيشون في بعض الأحيان في دوامة الحركات الاحتجاجیة التي تستنزف جزء من غضبهم عبر فترات معینة ،كما جعلتهم عرضة للسقوط في براثن الانحراف والاجرام والتطرف.
وبالتالي فان أية استراتيجية بعد زمن الكورونا كيفما كان طموحها بدون وقف هذا النزيف والاستنزاف للموارد البشرية الشابة سيكون محكوما عليها بالفشل وهدر الزمن التنموي.
وعلى هذا الأساس وجب التفكير اليوم في السبل الكفيلة لاستثمار الثروة الشبابية الكبيرة لبلادنا وتحويلها لدعامة أساسية لبناء نموذج تنموي جديد، وهو مايستوجب تبعا لذلك عودة دولة الراعية الاجتماعية من أجل حماية الشباب من الاقصاء والهشاشة ووضع استراتيجية تستهدفهم على مجموعة من المستويات خصوصا الشباب الذين ينحدرون من أسر معوزة بالإضافة الى شباب الشوارع وذوي الاحتياجات الخاصة، هؤلاء الذي يجدون صعوبة في الاندماج في المنظومة التربوية لأسباب اقتصادية واجتماعية تستوجب وضع أليات لتتبعهم ودعمهم ومواكبتهم لاستكمال دراستهم. كما ينبغي التفكير في خلق نظام تعليمي مواز يشكل فرصة ثانية أمام من تعثروا في متابعة دراستهم وذلك في اطار محاربة ظاهرة الهدر المدرسي التي تساهم في عدم تطور الفرد بل المجتمع برمته.
كما أن أزمة كورونا كشفت أن منظومتنا التربوية لم تكن مهيأة لخوض تجربة التعليم عن بعد، أمام نقص الإمكانيات الضرورية لانجاحه وهو ما يستدعي الكثير من الاجتهاد في المستقبل. إضافة الى عملية التكوين واعداد المنصات اللازمة، لذلك وجب التفكير في تخصيص ميزانيات فرعية يكون هدفها حاسوب لكل طالب مع التنسيق مع شركات الاتصالات لكي تكون التطبيقات الخاصة بالعملية التعليمية مجانية التنزيل والاستعمال .
مابعد كورونا ينبغي أن يجعلنا نسخر الطاقات لتصنيع أغلب من نحتاج اليه في جميع القطاعات بعد أن شاهدنا ما يحدث عالميا من نزاعات على الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي كل هذا يدفعنا الى ضرورة مراجعة نظامنا التعليمي وملاءمته مع احتياجاتنا في المستقبل عبر ادماج ثقافة الإنتاجية والابداع وتحسين سبل الولوج الى اقتصاد المعرفة، بما يحقق اكتفاءنا الذاتي.
وفي اطار توفير الظروف الملائمة للشباب و من أجل اندماج سليم في الحياة الدراسية، ينبغي التفكير كذلك في المعيقات الصحية لعدد كبير من الشباب حيث لايزال التفاوت بينهم في الولوج للرعاية الصحية، لاسيما المنحدرون من المناطق النائية والأسر الفقيرة، وهو مايستدعي التفكير في تطوير منظومة الحماية الاجتماعية للشباب وتوسيع نطاق التغطية الصحية لتشمل التلاميذ والطلبة، بالإضافة الى توفير الخدمات الصحية والتجهيزات الطبية في المؤسسات التعليمية والجامعات.
ومن أجل تعزيز مشاركة الشباب في خلق الثروة ينبغي تعزيز الإدماج المهني للشباب في سوق الشغل، وتشجيع روح المبادرة الذاتية وهو الخيار الذي عملت بلادنا على تبنيه أشهر قليلة قبل الجائحة من خلال البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات، وبالرغم من أهمية هذا البرنامج الطموح فإنه يبقى غير كاف، بل يستوجب الأمر مجموعة من التدابير المصاحبة على المدى المتوسط والبعيد تبدأ بمراجعة قانون الصفقات العمومية، وتخصيص نسبة معينة لفائدة المقاولات الناشئة التي يحدثها الشباب بالإضافة الى تبسيط المساطر الإدارية الخاصة بإحداث المقاولات، وإنشاء شبابيك خاصة لمواكبتها وتسهيل ولوجها إلى آليات التمويل والتكوين المستمر، كما أنه ينبغي التفكير مستقبلا في ادراج وحدات تتعلق بكيفية انشاء وتدبير المقاولات في المنظومة التعليمية بهدف زرع روح المبادرة الخاصة في وسط الشباب وتمكينهم من الآليات العملية للانطلاق في خلق المقاولة.
ان تدبير المسألة الشبابية في المغرب لايحتاج الى خيارات سياسية واستراتيجيات محددة باطار زمني فقط، سيما وأن الإشكالات السوسيولوجية للشباب ذات طبيعة بنيوية.
وفي هذا الاطار فإن النهوض بوضعية الشباب،يتطلب مشروعا تغييريا يرتكز على فلسفة قيمية وثقافية واقعية متحررة من سلطة الزمان وهاجس التدبير الإداري، و ترتكز على تعزيز التربية المدنية وتقوية قيم المواطنة والهوية لتحصين الشباب من جميع أشكال التطرف وضمان أمنهم الروحي والعقائدي، وفي هذا الاطار ينبغي على الدولة بتنسيق مع الجماعات الترابية أن تعمل على تعزيز الفضاءات الثقافية والرياضية والترفيهية بالمدن والقرى ودعمها بعروض جديدة للتأطير والمواكبة ،ودمقرطة وتسهيل ولوج الشباب اليها من خلال الاستفادة من اجراءات تمييزية وبأثمنة تفضيلية، باعتبارها فضاءات تساهم في الارتقاء الاجتماعي للشباب وتعزيز انتمائهم للمجتمع.
كما أن أي ادماج حقيقي للشباب لن يتأتى دون تمكين سياسي حقيقي لهم يضمن حضورهم وتواجدهم في المؤسسات التمثيلية ويمكنهم من المشاركة في صياغة السياسات العمومية المرتبطة بهم، وذلك عبر وضع آليات قانونية وتشريعية داعمة،بالإضافة الى إصلاح القوانين الانتخابية وتطوير القانون التنظيمي للأحزاب بما يضمن تعزيز حضورهم في كل المؤسسات في أفق تغيير السوسيولوجية الانتخابية التي تقف عائقا أمام مشاركتهم في تدبير الشأن العام على قدم المساواة.
ان النهوض بوضعية الشباب في مرحلة مابعد كورونا، يتطلب فتح نقاش مجتمعي واسع يؤسس لميثاق وطني حول الشباب يكون بمثابة أرضية لاستراتيجية جديدة، تستند لمقاربة عرضانية برؤية شمولية في اطار متجانس ومندمج، تتجاوز الطابع الأحادي للبرامج والمبادرات التي تعتبرالشباب هدفا من منطلقات قطاعية فقط، وتتيح لجميع المتدخلين في المجتمع وفي مقدمتهم الشباب من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار وتتبعه وتقيمه، عبر وضع آليات قانونية وتنظيمية لذلك بالموازاة مع تفعيل واحداث مؤسسات تواكب تطلعات وحاجيات الشباب المتغيرة، وتوجه السياسات العمومية بما يضمن تملكهم هذا الطموح الجماعي ويعيد الثقة اليهم، ويحرر طاقاتهم ويستثمر كل مؤهلاتهم وخبراتهم في خدمة الوطن .

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد