السراب !

حديث الأحد

وأنا احتسي قهوة الصباح صباح يوم الأحد في المقهى المعتاد، وعلى أنغام العود، ووصلة جميلة لأحد الفنانين الشباب الجدد، شرد بالي للحظة، وفجأة دخل المقهى شيخ كبير، وتوجه صوب طاولتي، لأنها الوحيدة التي كان بها مكان شاغر، وباقي المقهى ممتلىء عن آخره، و بعد السلام والتحية طلب الإذن بالجلوس، وبدون تردد قبلت ورحبت به …

بادرني الشيخ الذي تبدوا عليه علامات الوقار بالسؤال، ما إسمك ومن أي أرض انت ؟

تعجبت من سؤاله، ولكن تقديرا لشيبته وعمره أجبته، فقلت له إسمي، وأنني من هذه الأرض …

فقال لي سألتك لأنني غريب أوطان، وقادم من أرض بعيدة، ولكن كنت أقطن هذه البلاد منذ زمن طويل ورحلت عنها …
وعدت لتوي فأردت أن أستفسر عن حالها وحال سكانها، فهل تكرمت واخبرتني عن أوضاعها وأوضاعكم، هذه الأيام ؟

فقلت مع نفسي لا بأس، عندي شيء من الوقت ولا ضير أن أستجيب لطلب هذا الشيخ الوقور، واحكي له عن حالنا …

فقلت له : حاضر اسمع يا سيدي، نحن أحوالنا طيبة وبخير ولاينقصنا شيء …

مدارسنا جميلة ومستوى التعليم عندنا راقي، ونستقبل الطلبة من جميع أنحاء العالم، وعندنا البحث العلمي جد متقدم، وتنتج مختبراتنا كل يوم اختراعات واكتشافات جديدة …

وبالنسبة لسوق الشغل فنسبة البطالة جد متدنية، ونستقبل العمالة الأجنبية التي تتوافد على البلاد من كل صوب وحذب، تقطع البحار، وتطير في الأجواء، وقبل كل هذا تصطف أمام أبواب سفاراتنا بالخارج طلبا لتأشيرة الدخول عندنا …

نعم أحوالنا طيبة والحمد لله ولا ينقصنا شيء …

مستشفياتنا الحكومية مصنفة الأفضل على وجه الكوكب، خدماتها خمسة نجوم، والاطر الطبية تعتمد على آخر ما انتجت التكنولوجيا، وبطبيعة الحال خدماتها مجانية، وتصور سيدي أن الأجانب يزورون البلاد بذريعة السياحة، وهدفهم الحقيقي هو القدوم إلى هنا واستغلال خدمات بلادنا الصحية المجانية …

فيا لهم من محتالين !

هذا رائع أجابني الشيخ ! وماذا عن الفن والرياضة والثقافة ؟

نحن نتبوأ مرتبة جد متقدمة في مصاف الدول المتطورة، أجبته، فلدينا في كل مدينة تقريبا مسرح كبير وقاعات سينما تعرض كل ما هو جديد، والمدارس تنظم دورات تدريب مجاني في المسرح والرسم وجميع أنواع الفنون للتلاميذ في جميع مستويات التعليم …

وأما الرياضة فكل الأحياء والحمد لله بها مسابح عمومية بالمجان، تسمح بالسباحة حتى في الفصول الباردة بفضل تدفئة ماء السباحة، كما تجد في كل ركن من المدنية صالات لكل أنواع الرياضات، وملاعب كبيرة لكرة القدم وغيرها، ومضامير السباق …

أما فيما الثقافة فلقد أنتجنا منظومة ثقافية متطورة و تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، فشيدنا المكاتب العمومية في كل مكان تستقبل الرواد من كل الأعمار والأجناس …
بل وحتى حدائقنا العمومية، ستجد في كل ركن منها مكتبة مليئة بالكتب، تتيح لرواد هذه الفضاءات الجميلة المطالعة في حضن جمال الطبيعة …

رائع يقول جليسي … !

فماذا عن العدالة الاجتماعية وحقوق الطبقات الدنيا كالعمال والفلاحين وبسطاء الناس ؟

فقلت له حكومتنا الرشيدة المنتخبة لم تترك ورشا إلا وأبدعت فيه، فأصبحنا في غنى وترف لدرجة أنه أصبح من الصعب إيجاد فقير نخرج له الصدقات … !

تهلل وجه الشيخ وفرح فرحا بما سمعه مني لدرجة أنه قام من مكانه وضمني إليه بقوة كادت تنخلع معها أضلعي من مكانها، وشكرني كثيرا …

وقال لي أنا جد فخور بكم، وسعيد لعودتي لأراكم في أحسن الأحوال …

واستاذن مني للذهاب للحمام … وبعد دقائق معدودة عاد مسرعا ووجهه متجهم، وصرخ في وجهي:

كيف تريدني أن أصدق كل ما قلته لي عن أحوالكم وتطوركم ورقيكم، وأنتم حتى حماماتكم غير نظيفة … !

حتى هذا الشيء البسيط الأساسي فاشلون فيه !

فأكيد كل ما كنت تقوله لي من وحي خيالك … !

ألقى إلى نظرة أخيرة غاضبة ورحل … !

خرجت من المقهى مسرعا وراءه، فلم أجده وكأنه تبخر !

وكأنه سراب … !

وإلى الاسبوع المقبل.

كتب : الدكتور سعد ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد