التحوّل القيمي في ظلّ الأزمات، أيّة علاقة؟

كتب : الدكتور عبد الله عبد المومن

لا شك أن للأوضاع والتغيرات الاجتماعية التي يحياها المرءُ أثرا على جوهر القيم بوصفها مُوجّهات وضوابط للسلوك العام، ومعايير منبثقة من روح الجماعة، ولا شك أيضا أن للنظر في مرتكزات الحضارة (الإنسان،القيم،الأشياء)، أتمّ صلة بذلك، إذ يُحيلُ على مدى ارتباط الترقي والتدني الحضاري بالتحولات القيمية داخل المجتمعات، والتي لها بواعثها وأسبابها،كما لها تمظهراتها وتجلياتها.

لكن يجدرُ الوقوف والتنبيه على أمر آكد في الحديث عن التحول القيمي، وهو ضبط مصدرية القيم ابتداء ومرجعيتها، فحين نتحدث عن القيم المتشبّعة بروح الدين والمستمدّة منه، وإن اختلفت نِحلُها ومللُها، نجدها بالغة التأثير، كما نجد بينها تجانسا وتماهيا،فالحق والعدل والمسؤولية وحفظ المصالح الضرورية من المشترك بين جميع الأديان، لكنها ليستكغيرها من القيم المسلوبة الاستناد، وإن أمكن انتظامها في المواثيق والمنتظمات والدساتير الجامعة والصادرة عن التشكلات الاجتماعية إذ يمكن الاحتكام إليها عاديا، لكن مع تغليب تحولها، ونسبيتها، وضعف تأثيرها.

والحديث هنا لا يتناول الثابت والمتغير من القيم، إذ الأول يتعلق بثوابت الهوية، ومنه القيم العقدية، بينما الثاني يخضع للحاجات المجتمعية وسُلّم الأولويات، وإنما القصد هنا تأثر تلك المنظومة السلوكية الفردية والجماعية بمؤثرات خارجية وصيرورتها صوبَ الانتكاسة والانهيار، من خلال علاقة جدلية بين تغير الواقع وتحول القيم، والباعث على هذا التحول بعد افتقاد المرجعية التلبّسُ بالطابع البراغماتي، وتغليب النفعية الذاتية، والذي أضحى المعيار الأقوى في تقييم الفعل الإنساني، فلا عبرة به إن لم تكن نتائجه نفعية، ولوعلى حساب المسألة الأخلاقية، نعم تُقبلُ إن تأسست الأخلاق على المنافع، وتردّ وترفض كلما عارضتْها أو ناكَدَتها.

ولا يستغربُ استدعاء المفارقة العجيبةبين التقدم والرقي المادي من جهة وانتكاسة القيممن جهة ثانية، وهو ما يستدعي إعادة النظر في الفلسفات المعاصرة ومدى صدق استيعابها لهذه الإشكالية، والتي تعيد لا محالة النظر في شرعية المنظومة القيمية وأحقّية الالتزام بها.

وأراهُ من اللائق وضع معالم نقتبس من خلالها إشكالية التحول وارتباطه بسياق الأزمات، وهو ما يتمخض في نظري عن الإخلال بأبعاد ثلاثة: البعد الإيماني، والبعد الأخلاقي، والبعد الإعماري.

البعد الإيماني: ومنطلقه التجاوب مع الفطرة البشرية السوية، وفطرةِ الكون وتكاملِ نظامه، والغاية تحقيق التكامل بين توحيد الخالق، ووحدة الخلق، الجلي في النظام الكوني المحكم، والصنع الإبداعي المتقن، لينطلق الإنسان بإزائها من “قوة اليقين”، إلى جوهر “العلم” أي النظر لاستكشاف الوجود المادي والماورائي، إلى إنتاج “العمل الصالح”. فالانطلاق من الإيمان توجيه للقيم للتي هي أقوم، وهذا الاعتبار له تأثير كبير على السلوك العام، وهو مايمكن التعبير عن فاعليته في الكون والإنسان بالصلاح والإصلاح،وهذا يدحض إلى حدّ كبير تلك المقولة الفلسفية بأن للخُلق تعلقا ظاهرا بالعوامل الثقافية والتاريخية، ومن ثم يتغاير بتغاير المجتمعات، وقد اعتبر الفيلسوف طه عبد الرحمن في “سؤال الأخلاق” هذا التفسير إضافة إلى غيره فوضى فكرية لا مطمع في الحدّ من توسعها.

إن جوهر هذا البعد فلسفيا في مركزية القيم يحيلُ على تفهم حقيقة “الضمير” الذي وإن لم يغلب استعماله في الثقافة الإسلامية، فإنه ليس إلا الملكة التي نصدر بها أحكام القيمة حسب تعبير الجابري في “العقل الأخلاقي العربي”، أو هو بصورة أبلغ يصدُق على مفهوم “الفطرة” حسب تعبير محمد دراز لأن شريعة الضمير -طبقًا للقرآن نفسه- سابقة في الوجود على شريعة الدين الإيجابية، فلقد نفخ الشعور بالخير وبالشر، وبالعدل وبالظلم، في كل نفس إنسانية منذ كان الخلق، وهو أيضا بمعنى “القلب”، و”النفس” فيما لا يحصر كثرة من القوانين والمباديء الأخلاقية القرآنية والنبوية.

وأيا كانت المعاني فإن المنخول أن الضمير الواعي المستنير يناكدُ الغريزة العمياء، لنتبين معه إشكالية التحول التي تنبعث من انتكاسة الضمير الأخلاقي، إذ الذي يجتاز الصعاب ويتجاوز الأزمات، ذلك الذي قوي هذا الحسُّ في دواخله، ورسخ في بواطنه، وانظر إلى طالوت واختباره لنفوس جنده لما صرحوا بقولهم (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، فخلص الأمر بناء عليه إلى انتخاب صفوة الصفوة (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلا منهم)، فالإيمان هنا سبب في طلب العزة، وتحمّل المشاق معا.

وهذا ما شهدناهُ اليوم في قمم الحضارات المادية تتهاوى من انتكاسة أزمة القيم، إذ سادت المخاطرة بالأنفس والأرواح دون الحرص على حمايتها، كترك مرضى التوحّد للموت، والعجزة والشيوخ وغيرهم، والتحفظ على العلاج تحت شعار: (العلاج أسوأ من المرض)، وهو مما تأباهُ الفطَر السليمة والقوانين الأخلاقية، وإتاحة السطو على حق الغير، وغير ذلك مما يُستحلّ بعارض الأزمات، فانظر وتأمل.

البعد الأخلاقي: إن انبناء المسؤولية الأخلاقية على أساس متين من القيم الدينية هو الطريق إلى خلاص البشرية، ما دامت الفلسفات بمدارسها المتعددة قد أخفقت في تحديد مصدر الشعور بهذه المسؤولية، فالضمير وسلطانه قد تستهويه التطورات والاستكشافات فيؤول حال البشرية إلى التماهي معها والتوافق مع نتائجها ولو على حساب القيم والأخلاق، نفس الأمر في عجز المسؤولية القانونية عن الحد من المفاسد الأخلاقية، ومن ثم وحسب تعبير الدكتور محمد الكتاني في كتابه “من تساؤلات عصرنا”: “فبناء المسؤولية الأخلاقية على مباديء عميقة الجذور في عمق الفكر والروح، لأنها تقيم هذه المسؤولية على أساس مطلق، وتحاكم الإنسان إلى خالقه. ومنطقها كما هو معلوم هو أن من خلق الإنسان هو الذي يحدد لهذا الإنسان مسؤوليته، ويحدد طبيعة سعيه في الحياة، قال تعالى: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى”.

هنا يكمن جوهر القيم المنبعثة من عمق الفكر والروح والباعثة على الثبات مهما طغت الأزمات، وهنا يمكن بيان دور المسؤولية الأخلاقية بوصفها أداة رقابة في توجيه قضايا العلم ومجالاته، فاستكشافه لقوانين الطبيعة وقدرته على تفعيلها واستثمارها، قد يجانبه الصواب أحيانا، فيكون للمسؤولية الأخلاقية دور الحدّ من نشاط “العلم”، سيما إذا سعى التقدم التكنولوجي صوب مسار الهلاك والتدمير وكل ما يخالف تحقيق سعادة الإنسان، فنظام الكون ونظام الأخلاق ليسا في صراع دائم بل الوفاق بينهما لتحقيق مبدأ الاستخلاف من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، ومعارضة دستور الأخلاق الإنسانية بيّنٌ في كثير من الاستكشافات والاختراعات العلمية في التكنولوجيا والبيولوجيا المعاصرة، والتي قامت على أساس مادي كالصراع من أجل البقاء، والتسابق نحو التسلح، والتي تجلت آفاتها في مظاهر شتى من الأسلحة الفتاكة، والأدوات الإلكترونية الكاسحة، والهندسة الوراثية، وتهجين الأجنة وغير ذلك.

البعد الإعماري: وهذا ما يقارب حقيقة الوجود الإنساني وسر الاستخلاف، وليس فقط جعلُ المنطلق من مبدأ الحق والحرية لمسايرة حركة الإنسان في الكون، لأنه لم يُجد في تصور رؤية شاملة ــ مع التدفق والتنامي المعرفي ـــ لما سيؤول إليه حال الإنسان، سيما وأنه بقدر ما تطور العلم لتحريره بقدر ما ضمر جانب حريته مع تطور الرقمية والآلية، مما أفضى إلى ذوبان وانصهار شخصيته وضمور قيمه بل وبالأحرى استبدالها بالشائع الذائع من ثقافة المادية والغرائزية. فاستدعى الحال أكثر من أي وقت مضى التذكير ــــ كما يعبر عنه الدكتور فتحي الدريني في “دراسات حول الفكر الإسلامي المعاصر” ـــــ بحقيقة “الإنسان الذي هو ـــ بمقتضى التشريع الإسلامي ــ إنسان التكليف والمسؤولية، قبل أن يكون صاحب حق وحرية…، فالإطلاق في الحريات لا يستقيم مع عنصر التكليف فيها منشأً وممارسة، إذ لا ينفصل معنى التكليف عن مفهوم الحرية العامة في الإسلام، بل ثمة تلازم بينهما”.

إن اقتران الإصلاح بالإعمار باعث على التحقق من الحقيقة القرآنية الإعجازية، والتي لن تجد البشرية في هجرها قواما ولا سدادا، بل من سنن الله في الكون والحياة أن النجاة من الهلاك مرتبطة بهما معا، قال تعالى:

“وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون” هود:117.

تلك الأبعاد الثلاثة تنتظم في خرز الحماية لجوهر القيم، وتمظهرات الرقي الحضاري، بينما الإخلال بها مؤذن بتحول مهول في فاعلية تأثيرها، إن لم نقل بإحلال قيم مستحدثة براغماتية محلّ القيم المنهارة.

الدكتور عبد الله عبد المومن : أستاذ التعليم العالي ـ جامعة ابن زهر

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد