أيقظَني صُراخك

بقلم : فؤاد الجشي

عندما يتقيّن الإنسان دوره في الحياة، تتضح الرؤية، الخطوط جميعها منفردة، لا تشابك مع الآخر، تشعر وكأنك طائرٌ محلق، تسير بخطى واضحة، ترى الأشياء بجمالها، جميع الماديات مثل الطبيعة والكون تصبح ملكاً لك، خيال لكنّه حقيقة.

عندما ترفع رأسك، يشتدّ عقلك وروحك، تتجلّى صفاتك أمام خالق عظيم، وجدك لأن تكون أنت سيّد هذا الكون بعده وليس قبله، ما زال الإنسان يبحث عن السّر المكنون في هذا الكون بعظمة عقله الصغير الكبيرة في ذاته، إنّها قدرة لا تتوقف على التوقف. أما الإنسان يمتلك من الأسرار التي لم تُكشف بعد، فهو قادر على البناء والتدمير بذاته، هناك من يسعى للجمال وهناك من يسعى إلى تدميره.

الحياة كلمة، والحب والكره كلمة، لكنّها ليست كلّ الكلمات، إنّها أهم الحروف التي عرفتها البشرية منذ عصر الرافدين، حين خلقوا ذلك الصنم، أفروديت آلهة الحب، يقفون أمامها، يقذفون ذلك الكره في إعادة شحن أفئدتهم كي ينعموا بهواء الروح والسلام، أمام تجاربهم والمِحن الأكثر صعوبة، إنّها صور استقرّت في عقل الإنسان، يتضاعف عددها كلّ ثانية، مُشكّلة لوحات فنية تشهدها نفسك؛ حتى تتعرّى أمام شرور ذواتنا وذوات الآخرين.

يعيب من يعيب عندما نتحدث عن ذواتنا، الحياة صقلت كلّ كائن بشري في خضمّها، قدّمت وأخذت، وانتظرت وتناست لكنّها لم تنسَ سلوكنا وأفعالنا بكلّ صفاتها المنطقية وغير المنطقية، إنّها تجارب عملية ونفسية ارتدّت على صاحبها بكثير من الألم، لكن بينها أيضًا متعة وجزء من السّعادة بقدرها المحدود. قد نهيم بألمنا لكن يجب أن نعترف بأنّ الشّقاء جزء، والمتعة جزء، والسّعادة جزء، قَسائِم تتوالد لك في كلّ مرحلة من حياتك، أكثر ما يسعد الإنسان؛ المال، والنساء، والحب، والشّهرة، والسّلطة، بين هذا وذاك، المال نعمة يتبعه الحب ومرادفته.

أكثر السّعادة في نظري هي الطهارة، إلّا أنّها تظلّ نسبية للبشر، بسبب أو بدون سبب، يلحقها نظافة المنزل، إنه شعور ملكي لا أستطيع وصفه، كأنّ كلّ علقة بداخلك ثابتة لا رجعة له، وفي الزاوية يظهر ذلك المبخر بعوده، ربما يبعد النّحس من زوايا المنزل، تبتسم نفسك أمام مُحبّيك بطاقة عجائبية، تلد من جديد إلى جديد آخر، إنّها الحياة التي لا نعرفها.

تتذكر تلك المرأة التي حملت المصباح بين نهرين، تنظر بعيدًا على الجانب الآخر من النهر، محاولة العثور على ضالتها التي فقدتها من سنين طوال، تصرخ برخيم الصوت: أين أنت؟، لا تعلم أين ذهب، حتى جاءها ذلك الرجل بقامته الطويلة، فارغًا بدون مصباح:
– أيّتها المرأة، عمّ تبحثين؟ من أنت؟

لقد أرعبت قلبي، اهدئي، أنا جابر، أسكن في آخر النهر.

– آه، الشيء الذي فقدته بجانب البيت، العشّة التي تسكنها.

– قال: عجبًا، يا امرأة، قولي، عمّ تبحثين؟
أسدلت غطاءها، ذهبت بين السّديم ولم يرها مرّة أخرى.

في الليلة التالية، جاءت تركض بين النهرين يفصلهما قاطع اللوح، تنظر إلى الماء قبل خطوتها إلى الجانب الآخر، تصرخ: أين أنت؟
وصلت المنتصف، التفتت يمينًا، رأت كوكبًا يشبه القمر، ارتفعت روحها، ابتسمت بين منتصف الكوكب، ذهبت ولم تعد.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد