كتب : أحمد نورالدين
تأتي زيارة رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، إلى الرباط يوم الخميس 7 أبريل 2022 لِتُتوج سلسلة من الاتصالات والرسائل والخطابات والخطوات التي أفضت إلى توافق البلدين على طيّ أزمة دبلوماسية اندلعت شرارتها بعد استقبال مدريد في جنح الظلام لزعيم جبهة “البوليساريو” الانفصالية بهوية مزورة وبتنسيق مع دولة تعلن عداءها الرسمي للمملكة المغربية، وهو ما شكل في حينه ضربة قاصمة لمبادئ الثقة والشفافية وإخلالا خطيراً بالالتزامات التي تجمع البلدين سواء في إطار اتفاقية 1992 أو مذكرة الشراكة الاستراتيجية الموقعة عام 2019.
ومنذ الوهلة الأولى لتلك الأزمة التي حملت اسم ” فضيحة ابن بطوش”، عرف البلدان كيف يُدبّران علاقاتهما بالحكمة والهدوء والمسؤولية التي تترجم الثقل الحضاري والتاريخي لمملكتين جارتين لهما إرث دبلوماسي يمتد لقرون. وبعيداً عن أعين المراقبين انطلقت مشاورات لإعادة بناء العلاقات الثنائية على أسس متينة تُحول المشكلة العابرة إلى فرصة سانحة للارتقاء بالتعاون بين ضفتي مضيق جبل طارق إلى مستويات أعلى وأعمق مما كانت عليه إلى حدود اليوم.
وقد أفصح العاهل المغربي في خطاب ثورة الملك والشعب أنه أشرف شخصياً على تلكم المباحثات، وفي ذلك إشارة إيجابية من ضمن إشارات أخرى تمّ تبادلها بين الطرفين، وأذكر منها على سبيل التخصيص إقالة وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا لايا، بعد أقل من ثلاثة شهور على الحادثة الدبلوماسية، وتصريحات رئيس الحكومة الإسبانية التي تكررت في كلّ خرجاته الإعلامية مؤكداً فيها الأهمية الاستراتيجية التي يوليها كلا البلدين لبعضهما البعض.
وباستقراء سريع لكل تلك الرسائل المتبادلة، الصريح منها والمُشفّر، ندرك دون عناء وجود إرادة سياسية قوية لدى الجارين لِطيّ الخلاف وتدشين “مرحلة جديدة” وصفها العاهل المغربي بـ “غير المسبوقة” في خطاب 20 غشت 2021، وقال عنها العاهل الإسباني في خطابه أمام السلك الدبلوماسي في 17 يناير 2022 بأنها ستعيد “تحديد العلاقة بشكل مشترك للقرن الحادي والعشرين”، لتكون “الأقوى والأكثر صلابة”.
ومنهجياً لا يمكننا القفز على السياق الإقليمي لهذه الزيارة، فهو يتميز بقطع الجزائر علاقاتها مع المغرب يوم 24 غشت الماضي، وبسحب الجزائر سفيرها من مدريد، يوم 19 مارس 2022، احتجاجا على دعم إسبانيا للموقف المغربي في الصحراء، وهو تدخل سافر في قرار سيادي لإسبانيا من دولة تزعم أنّها ليست طرفا في نزاع الصحراء.
وفي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا للتخلص من هيمنة روسيا على سوقها للغاز الطبيعي، تلوح الجزائر باستعمال الغاز كورقة لابتزاز إسبانيا في ملف الصحراء، سواء من خلال مراجعة الأسعار أو برفضها تشغيل الأنبوب المغاربي-المتوسطي الذي يَعبر التراب المغربي.
إضافة إلى ذلك أعلنت وكالة إيتار-تاس الروسية يوم الثلاثاء 05 ابريل الجاري عن إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا والجزائر على الحدود المغربية خلال شهر نونبر المقبل، وهي رسالة صريحة من النظام العسكري الجزائري على أنه قد اختار معسكره في الصراع القائم بين أوربا والولايات المتحدة من جهة وروسيا التي تقوم بغزو الأراضي الأوكرانية من جهة أخرى.
في هذه الأجواء، يقوم سانشيز بزيارة للمغرب يعتقد أنها ستتطرق لكل القضايا التي تشغل بال الجارين دون طابوهات، قصد إعطاء معنى حقيقي لشراكة تليق بالقرن الواحد العشرين.
وفي هذا الصدد تبرز خمسة ملفات كبرى لا محيد عن مناقشتها بالنضج السياسي الكافي لتقريب وجهات النظر و”الفهم المشترك لمصالح البلدين الجارين” كما عبر عنه العاهل المغربي.
وقد مهدت إسبانيا الطريق لذلك من خلال مراجعة موقف الحياد السلبي تجاه المغرب وعبرت في رسالة رئيس حكومتها يوم 18 مارس 2022 عن التزام الطرفين بدعم الوحدة الترابية للبلدين، وهي إشارة لا تقبل التأويل عن استجابة إسبانيا لمطالب المغرب بالخروج من المنطقة الضبابية ودعم الوحدة الترابية للمغرب. وننتظر الآن ترجمة ذلك عملياً على الساحة الأوروبية وفي الأمم المتحدة بالإضافة إلى حظر أنشطة الانفصاليين فوق أراضيها.
في مقابل ذلك هناك إرهاصات ميدانية توحي بأنّ المغرب سيعلن عن فتح المعابر الحدودية مع سبتة ومليلية المحتلتين واللتان تعانيان من اختناق إن لم نقل احتضار منذ اندلاع الأزمة بين البلدين.
وفي نفس المنحى كان المغرب قد أعلن عن الاستعدادات المشتركة مع الجارة الشمالية لانطلاق عملية “مرحبا” وعودة الخطوط البحرية التجارية بين موانئ البلدين لتسهيل عبور أزيد من ثلاثة ملايين مغربي خلال عطلة الصيف وحدها. وهو النشاط الذي كان يدر على الخزينة الإسبانية ما لا يقل عن 1.5 مليار أورو. لذلك وصفت الشركات الإسبانية توقف عملية العبور بالانتكاسة الاقتصادية التي لها تأثير قاس على مدن المرية وطريفة ومالقا والجزيرة الخضراء وأليكانتي وغيرها. وهو ما شكل ضغطاً حقيقيا على الحكومة الإسبانية للتسريع بتصفية الأجواء مع المغرب.
وعلى نفس النهج الإيجابي، كان العاهل المغربي قد طمأن جارتنا الشمالية في خطاب المسيرة الخضراء للعام 2020 بأنّ المغرب ملتزم بالحوار مع إسبانيا، بخصوص أماكن التداخل بين المياه الإقليمية للبلدين الصديقين بعيدا عن فرض الأمر الواقع من جانب واحد، وأتوقع أن يكون هذا الملف من أهم نقاط جدول الأعمال بين الحكومتين. إذ لا يمكن القفز على ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وما يترتب عنه من إشكالات استغلال الثروات في الجرف القاري للسواحل المغربية قبالة جزر الكناري.
وأكيد أنّ هذه الخطوات الإيجابية من الطرفين ستساهم في تلمس الحلول لباقي القضايا العالقة والتي هي بحاجة إلى كثير من روح التوافق والحكمة وبعد النظر من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة ترضي الطرفين. ويأتي في مقدمتها ملف سبتة ومليلية والجزر الإحدى عشرة المحتلة ومن ضمنها الجزر الجعفرية الثلاثة. فالبلدان بحاجة إلى حلول مبتكرة تعيد الثغرين المحتلين إلى حضن الوطن الأمّ، وفقاً لاتفاق يحترم ثقل التاريخ المشترك وأجندة معقولة قد تستغرق نصف قرن مثلما حدث في تجربة هونغ كونغ بين الصين وبريطانيا.