بائع الحليب …

حديث الأحد…

بقلم : د. ماءالعينين سعد.

وأنا جالس أحتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد، وَقَفَتْ بباب المقهى سيارة توصيل طلبيات، والسيارة مملوكة لشركة تسويق حليب ومشتقاته جاءت لتوصيل طلبية للمقهى الذي يعد من زبناء الشركة الأوفياء، وصاحب المقهى يقول أن هذه الشركة تنتج أفضل أنواع الحليب ومشتقاته من أجبان وقشدة طيبة، في كل المنطقة …

سيارة الشركة هذه مكتوب عليها حرفين M و I وعبارة :

“بع الحليب فقط … ”

والشركة تسمى “M & I” على إسم مُؤَسِّسَيْهَا وَمَالِكَيْهَا .
الإثنين “مبارك وإيجو” و”مبارك” و”إيجو” أسماء لزوجين قصتهما عجيبة …

“مبارك” :
مبارك هذا من قرية صغيرة نواحي العاصمة، من أسرة فقيرة تمتهن الفلاحة والرعي على مستوى محدود، والده يحلب معزاته ويحمل الحليب للسوق اليومي وسط الدوار، وبما يجود به المولى من بيع الحليب يطعم أولاده ويكسيهم.

“مبارك” الذي كانت عنده أحلام وطموح عظيم، كان دائما يقول : أنا لن أنتهي كوالدي “بائع حليب” وسأقوم بما يلزم لأنجح في حياتي وأحقق ما عجز عنه أهل القرية …

وعندما تحصل على الباكالوريا قرر الهجرة من قريته والذهاب للدراسة والعمل في العاصمة، حيث تحصل له صديقه الذي يكبره بسنوات وسبقه للمدينة منذ فترة، على فرصة عمل بدوام جزئي في أحد المقاهي، بحيث سيتمكن من الدراسة بالجامعة وفي أوقات فراغه يشتغل نادلا في ذلك المقهى، وآخر الأسبوع ستتاح له فرصة الاشتغال في حفلات الأعراس التي ينظمها صاحب المقهى لكونه متعهد حفلات، وبذلك سيستطيع “مبارك” الدراسة وفي نفس الوقت الاعتماد على نفسه في معيشته، خصوصا أن منحة الدراسة التي تعطيها الحكومة للطلبة لا تغطي حتى الحاجيات الأساسية للطالب …

سينهي “مبارك” دراسته الجامعية بالحصول على إجازة في القانون، وبعدها سيتوقف الزمن بالنسبة له، فلن يتمكن من الحصول على فرصة عمل بدبلومه الذي استنزف كل طاقته لمدة ثلاثة سنوات للحصول عليه، ولن يفتح له باب إتمام دراسته لنيل الماستر لما يتطلب ذلك من إمكانيات للأسف لا يتوفر عليها …

“إيجو” :
فتاة من دوار مجاور لدوار “مبارك”، أمها ربة بيت بسيطة، ووالدها حارس ليلي في إحدى الإقامات السكنية بالعاصمة، يرجع للبيت كل أسبوعين ليزور زوجته وأبناؤه الخمسة، وعندما بلغت “إيجو” الخامسة عشر من عمرها، قرر والديها أنه حان الوقت لأن تتوقف عن الدراسة وتجلس في البيت تساعد والدتها في تربية إخوتها الصغار، وربما يجدون لها عمل في بيت من بيوت أغنياء الدوار أو عند أحد العوائل في المدينة عسى أن تساعد أسرتها على تكاليف المعيشة،
وتوقفت دراستها عند التاسع إعدادي …

سيعود “مبارك” من العاصمة خالي الوفاض، منكسر ومحطم، بسبب فشله في تحقيق أحلامه التي رحل من الدوار سعيا وراءها …

وبعد أسابيع من الخلوة في بيت أهله هروبا من أعين الجيران، وكلام الناس، وشماتة الشامتين، وهو الذي كان يصرح أنه لن ينتهي لما انتهى له أبوه وأسرته من فقر وبؤس، يقرر ذات يوم بدون سابق إنذار أن يخرج من البيت ويلحق بوالده في السوق ليساعده في بيع الحليب … !

وبعد فترة سيصاب الوالد بوعكة صحية تقعده عن العمل ويترك “مبارك” يشتغل وحيدا في السوق …

بكم الحليب يا هذا ؟

تسأل “ايجو” البائع “أمبارك” …

وبعدما أجابها بطريقة لم تعجبها، قالت له يبدوا أنك جديد على السوق ولا دراية لك بقواعد التجارة، تبيع الحليب وتعامل الزبناء بتكبر وتعالي، فمن تظن نفسك ؟

دعيني من فضلك يا شابة، فحالي لا يحتمل هذا الكلام القاسي، يجيبها “امبارك”، فأنا متعلم وجامعي وواقف هنا في السوق أبيع الحليب واربح دريهمات قليلة !

حالك أحسن من غيرك في هذا الدوار يا هذا !
أحمد الله وأعمل بجد ترى الخير … اجابته “ايجو”.

إن كنت من ساكنة النواحي فلن تقولي هذا الكلام، ففي ما يفيد بيع الحليب ؟
انظري لفلان وفلان من سكان هذه المناطق، بالأمس القريب فقط كانوا مزاليط واليوم بفضل السمسرة والتجارة في كل شيء، ماهو شرعي وماهو غير شرعي أصبحوا مترفين في الأرض … !

أسمع يا هذا، لا أعرفك ولا تعرفني، ولكن أسمعها مني نصيحة :
قم أنت ببيع الحليب فقط، وأتركهم يبيعون سمعتهم وشرفهم وكل ما يشاءون … قالت “إيجو” كلماتها تلك واشترت منه لتر ونصف من الحليب ورحلت …

كلمات “إيجو” تلك رافقته طيلة سنوات حياته التالية، وأصبحت مبدأه الاساسي في الحياة، فاجتهد في بيع الحليب، وطور تجارته بكل الوسائل، ونجح نجاح باهرا لم يحققه قبله أحد من بني قريته، حتى اشتهرت تلك المنطقة ببيع الحليب بفضله، وأصبح يحج إليها كبار تجار العاصمة لعقد صفقات التزود بالحليب من شركة “مبارك” الذي عقد صفقة لا تقل أهمية عن صفقات الحليب مع صاحبة مقولة:

“بع الحليب فقط، واتركهم يبيعون ما يشاؤون”

عقد “مبارك” مع “إيجو” صفقة زواج وسمى الشركة على إسميهما “امبارك وايجوا” “M & I” ، تقديرا وعرفانا منه للسيدة التي كانت محركا ورافعة لِهِمَّتِه … ولقلبه !

والى الأسبوع المقبل…

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد