كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة غضبة ابن بسام للأندلس

يعتبر كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” من أهم المصادر التي تناولت بالبحث والتوثيق، جزءا مهما من الحضارة الأندلسية، تاريخا وأدبا وفكرا.

وتعود أهميته إلى جملة من الأسباب منها، أن مؤلفه ابن بسام الشنتريني (450هـ/542هـ) عاصر مرحلة مهمة من التاريخ الأندلسي (ملوك الطوائف والعصر المرابطي)، تميزت سياسيا بالاضطرابات والفتن، وتعتبر البداية الفعلية للتفكك وانهيار الأندلس وسقوطها النهائي بعد ذلك بثلاثة قرون تقريبا، ولكنها من أغنى العصور أدبيا وفكريا…

وقد قسم ابن بسام مؤلَّفه، إلى أربعة أقسام غنية بالأحداث والاسماء والأشعار والرسائل وكل ما جادت به قرائح الأندلسيين من إبداع نثري وشعري خصوصا في القرن الخامس الهجري.

وتعتبر مقدمة كتاب الذخيرة، مدخلا مهما للكتاب يوضح فيها ابن بسام موضوع الكتاب وظروف تأليفه ومنهجه، ويلقي الضوء على الكثير من الجوانب المهمة التي تكشف عن خلفية أدبية ونقدية عميقة. ولكنها تبدأ بطرح موضوع مهم، كان دائما حاضرا في العلاقة بين المشرق والمغرب، خصوصا الأندلس.

يقول ابن بسام في أسباب إقدامه على تأليف الذخيرة:”وما زال في أفقنا هذا الاندلسي القِصيِّ، إلى وقتنا هذا، من فرسان الفَنَّيْنِ، وأئمّة النوعين قومٌ هم ما هم طِيب مكاسِر، وصفاءَ جواهر، وعذوبة مواردَ ومصادر؛ لعبوا بأطراف الكلام المشقَّقِ، لعب الدجى بجفون المؤرَّق، وحَدَوْا بفنون السحر المنَمَّقِ، حُداء الأعشى بِبناتِ المحلّق؛ فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم؛ وباهَوْا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل: نثرٌ لو رآه البديع لنسي اسمَه، أو اجتلاه ابنُ هلالٍ لولاّه حكمه، ونظم لو سمعه كُثيْر ما نسب ولا مدح، أو تتبّعه جرول ما عوى ولا نبح، إلاّ ان أهل هذا الأفقِ، أبَوا إلاّ متابعةَ أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتَادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجَثَوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا مُحكماً”. من الواضح أن ابن بسام غاضب مما يلاحظه على بني وطنه من عدم تقدير الذات، والتهالك على كل ما هو مشرقي، كيفما كان ومهما قل شأنه. وهذا ما دفعه إلى المبادرة بتأليف كتاب يجمع فيه ذخائر أهل الاندلس. يقول: “فغاظني منهم ذلك وأنِفتُ مما هنالك، وأخذت نفسي بِجمعِ ما وجدت من حسنات دهري وتتبع محاسن أهل بلدي…غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بُدورُهُ أهلة وتُصبِح بحاُره ثِمادا مضمحِلَّة مع كثرة أدبائه ووفور علمائه… وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخصَّ أهل المشرق بالإحسان؟

ويؤكد ابن بسام ان دوافعه ليست من باب التعصب الاعمى بل لقناعته بان أهل الاندلس أبدعوا وتفوقوا وإن كانوا لا يعرفون قيمة أنفسهم، ولم يكن ابن بسام منفردا في رأيه هذا بل إن كتبا كثيرة ألفت في هذا الشأن. لأن العلاقة بين الاندلس والمشرق، كانت دائما مثار جدال ونقاش، ولا أدل على ذلك من الحكاية المنسوبة إلى الصاحب بن عباد، عندما اطلع على كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، فقال” هذه بضاعتنا ردت إلينا”.رغم ان لنا رأيا في هذه المقولة سنعود إليه بالتفصيل في مقالة قادمة إن شاء الله.

ويورد ابن بسام في مقدمته، شهادة لأبي علي القالي البغدادي الذي وفد على الاندلس في عهد عبد الرحمان الناصر، سنة 330هـ، يقول:”لما وصلت القيروان وانا اعتبر من امرُّ به من اهل الامصار فأجدهم درجات في الغباوة، وقلة الفهم بحسب تفاوتهم ومواضعهم منها بالقرب والبعد حتى كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم مُحاصَّةً…قال أبو علي، فقلت: إن نقص أهل الاندلس عن من رأيت في افهامهم…فسأحتاج إلى ترجمان، بهذه الأوطان. قال ابن بسام، فبلغني انه كان يصل كلامه هذا بالتعجب من أهل هذا الأفق في ذكائهم ويتغطىَّ عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم، إن علمي علم راية وليس بعلم دراية…”

ويحدد ابن بسام الفترة الزمنية التي خصها بالجمع والدراسة، مع التأكيد على انه لن يعيد ما سبقه إليه غيره وبالتحديد، كتاب الحدائق لابن جيان الذي أرخ لشعراء الأندلس منذ البداية حتى وقت تأليف كتابه، وهو منتصف القرن الرابع الهجري، وهو كتاب مهم مفقود وإن كان الكاتب والباحث، رضوان الداية قام بجمع بعض شتاته من مصادر مختلفة في كتابه” الحدائق والجنان…”.

يقول:”‏ولم اعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية إذ كان ابن فرج الجياني، قد رأى رأيِي في النصفة وذهب مذهبي من الانفة فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق…ولم اعرض لشيء مما صنف.”

ويِؤكد احسان عباس في مقدمة تحقيقه للذخيرة، التزام ابن بسام بذلك: “ولم يخرج في مؤلفة عن الناحية الزمنية التي قررها إلا قليلا بإيراد ترجمة ابن مسعود والطليق”

على المستوى النقدي، لا يخفي ابن بسام رأيه السلبي في الشعر، رغم حضوره في مؤلَّفه، يقول:”ومع ان الشعر لم ارضه مركبا، ولا اتخذته مكسبا، ولا ألفته مثوى ولا منقلبا…وما لي وله وإنما اكثره خدعةُ مُحتال، وخلعةُ مُختال…” وإذا عرفنا رأيه في الشعر نستطيع أن نفهم موقفه الرافض للموشحات، ولو اهتم بها لكان الكتاب جامعا وشاملا لكل مناحي الأدب في هذا العصر. فابن بسام يؤكد على إعلائه من شأن الكُتَّاب، الذين اعتبرهم صدورا في أهل الآداب…

وقد اختار الكاتب ان يخضع عمله لتقسيم جغرافي. فخصص القسم الأول، كما يقول، لقرطبة وما يصاحبها من موسطة الأندلس. والقسم الثاني، لأهل الجانب الغربي، وذكر أهل إشبيلية، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر الرومي (الأبيض المتوسط) والقسم الثالث، ذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس، والقسم الرابع، خصصه للوافدين من المشرق إلى الأندلس ولبعض المشارقة وأهل القيروان الذين لم يدخلوا الأندلس. ويقول معلقا على الجزء الثاني من القسم الاخير: “وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه، المترجم بيتيمة الدهر”.

وتأثرالذخيرةباليتيمة واضح ولم يخفه الكاتب في مقدمته. وإن كان طه حسين، في تقديمه لطبعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول)، يرى بأن الشنتريني ورغم تأثره بالثعالبي، إلا انه أبعد منه نظرا وانفذ منه بصيرة وأعمق منه تفكيرا، وان ذلك تجلى في حسه النقدي، وإشاراته الذكية إلى تأثر الادب الاندلسي بمجاورته للأمم المختلفة، كما انهأكثر دقة في عرض سير من ترجم لهم وربطها بإنتاجهم الادبي والفكري. يقول” وقد عمد في ذلك إلى مذهب مستقيم حق، ظاهره السهولة …ولكنه في حقيقة الامر، خصب دقيق كل الدقة”

ورغم ذلك فإن ابن بسام لا يُخفي وجود نقائص في عمله، ويرجع ذلك إلى طبيعة الظروف التي كان يعيش فيها.وقد ضمن هذه المقدمة، إشارات مهمة عن سيرته الخاصة، وتقلب وجه الحياة بعدما كان في رغد العيش ببلده شنترين. يقول” وعلم الله أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الاحناء وفكر خامد الذكاء بين دهر متلون تلون الحرباء لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب مفلول الغرب مروع السرب بعد ان استنفذ الطريف والتلاد…بتواتر طوائف الروم علينا في عقر ذلك الإقليم، وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب عن سوء الاكتساب.” ويكشف هذا النص عن سوء الظروف التي كلن يمر بها الكاتب والتي لم تمنعه من الجمع والتحقيق والتمحيص والكتابة. وكأنه يسابق الزمن في توثيق جزء مهم من تاريخ الاندلس السياسي والأدبي والفكري.

لقد أفادت الخزانة العربية والإسلامية، من غضبة ابن بسام، لأهل الجزيرة، واغتنت بعمل مهم يضم أنفس ما أنتجته القريحة الاندلسية في فترة مهمة من تاريخ الاندلس، والتي وإن ميزها الاضطراب السياسي إلا انها زاخرة بثمار الأدب والفكر.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد