بينما أنا جالس أحتسي قهوة الصباح صباح يوم الأحد، التحق بي أحد الأصدقاء وجلسنا ندردش ونتحدث في أمور مختلفة، الرياضة، السياسية، الاقتصاد والفن، وحتى عن الأمور التافهة، وننتقل من موضوع لآخر، حتى قال لي صديقي ما رأيك في الاضرابات والاحتجاجات التي تقع هذه الايام، الكل يطالب بحقوقه، المعلمين، مهنيي الصحة، الموظفين في كل القطاعات، بل وحتى الطلبة …
فقلت له هذا الذي يحدث يذكرني بأحداث مسلسل قديم كان يعرض على شاشات التلفاز في التسعينات من القرن الماضي وبالضبط في ليالي شهر رمضان المبارك، وأسمه “الثلاثية” وهو مقتبس من رواية للكاتب المصري الراحل الحاصل على جائزة نوبل للاداب “نجيب محفوظ” والرواية جاءت في ثلاثة فصول أو ثلاثة قصص، “بين القصرين” و”قصر الشوق” و “السكرية” وهي أسامي شوارع وحارات حقيقية موجودة بالقاهرة، وفيها عاش وترعرع كاتب القصص الأديب “نجيب محفوظ” …
وتحكي القصص الثلاثة عن أسرة تاجر اسمه “السيد أحمد عبد الجواد” أو “السي السيد” كما تناديه زوجته وبعض أقاربه، وهي تسمية يستعملها العديد من الناس حتى عندنا هنا في هذه الأيام، للحديث عن نوع معين من الرجال الذين تنطبق عليهم أوصاف بطل ثلاثية “نجيب محفوظ”، حتى بالرغم أنهم لا يعلمون السر وراء هذه التسمية …
و “السيد أحمد عبد الجواد” كان رب أسرة متشدد ومتزمت لأبعد حدود مع أفراد أسرته الذين يتكونون من زوجته “أمينة” و ابنه البكر “ياسين” الذي يصفه ب “البغل” ويقول أنه فاشل في كل شيء، وكان قد أنجبه من امرأة اخرى طلقها من قبل، ويتهمها بفساد الأخلاق وتسمى “هنية” وإبنه الثاني “فهمي” المناضل في صفوف الحركة الطلابية التي كانت تتعاطف مع ثورة السياسي المصري “سعد زغلول باشا” الذي كان يقود الحراك الشعبي ضد المستعمر الانجليزي، الشيء الذي انتهى بمقتل “فهمي” في أحد المظاهرات بسلاح العساكر الانجليز …
ووولده الصغير الحالم العاطفي لحد الهشاشة “كمال” الذي سيتوجه لوظيفة التعليم في الوقت الذي كان والده يرغب في أن يدرس الحقوق ويعمل في أسلاك القانون، وينتهي به المطاف جريح القلب بعد تعلقه بشقيقة صديقه، الفتاة الغنية التي ستفضل عليه أحد أبناء الأغنياء الباشوات لترتبط به وترحل معه للعاصمة الفرنسية باريس …
بالاضافة إلى ابنتيه “خديجة” قوية الشخصية والقيمة على أمور البيت وعلى احترام النظام فيه، وأخيرا الصغيرة الجميلة “عائشة” التي تقضي وقتها في الغناء داخل البيت أغنية للمطرب المصري “سيد درويش” الذي توفي في مطلع القرن العشرين والتي تقول كلماتها :
“يا ابو الشريط أحمر ياللى
أسرتنى أرحم ذلى
البنطلون أسود كحلى
وكحل عينك من كحلى ”
تغني “عائشة” أو “عيشة” كما يقولون باللهجة المصرية هذه الأغنية وهي تلقي النظر عبر فتحة صغيرة في النافذة، فأغلب النساء ذلك الزمن كان محرم عليهن الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى مع ارتداء ثياب تقريبا تشبه نقاب هذه الأيام …
وبطل القصة “السيد عبد الجواد” يدير منزله بيد من حديد، أبناؤه لا يسمع لهم حس في حضوره، وزوجته بالكاد تستطيع توجيه الكلام له ويعاملها بقسوة، ولا شيء يسود في البيت إلا الطاعة العمياء والمطلقة، وسمعته في الحي أنه حارس الأخلاق والمثل العليا، يرفض أن يزوج ابنه البكر “ياسين” لابنة جارتهم المطلقة فقط لأنه يشك في أخلاقها، ويدعم بالمال الثورة التي كانت تلك الأيام ضد المحتل “الانجليزي” لأرض مصر، ويتصدق على المساكين، ولا تفوته صلاة الصبح في مسجد الحي …
يبدأ “السيد عبد الجواد” نهاره على طاولة الإفطار وبجانبه أولاده الذكور يشاركونه الطعام، وزوجته وابنتيه عائشة وخديجة واقفات ينتظرن حتى يفرغ “السي السيد” وأشباله من الطعام وينصرف، ويجلسن بعده لتناول ما تبقى منه، وأفتح القوس هنا واقول، أنني شخصيا كنت أظن هذا يحدث فقط في الخيال والرويات حتى حظرت بنفسي لموقف مشابه وانا صغير في بيت أحدهم بأحد مدن وسط البلاد، مع فرق أن النساء كن واقفات ينتظرن خارج غرفة الطعام، وقال لنا صاحب البيت “رحمه الله” أنها عادتهم في تلك المنطقة، أنهم لا يطعمون مع النساء … !
وفي المساء عندما ينتهي “السيد عبد الجواد ” من عمله يعود لبيته لتناول طعام العشاء، وتعد له زوجته “أمينة” أفخر اللباس المعطر بالبخور والعطور الفاخرة، فيرتدي ثيابه وينطلق إلى وجهة لا تعلم عنها شيء …
ينطلق السيد “عبد الجواد” إلى عوامة يمتلكها على نهر النيل، والعوامة هي تقريبا “مركب” على شكل بيت يكون على ضفاف النهر، وهناك يجتمع بأصدقائه وخلانه وشلة (جماعة) من الراقصات والغانيات تحت قيادة العالمة “زبيدة” و العالمة “سلطانة”(والعالمة بالسكون فوق اللام هي تقريبا مرادف للشيخة أو المطربة الشعبية عندنا هذه الأيام) ويستمرون في السهر والرقص والشرب حتى ساعات متأخرة …
والغريب أن ابنه البكر “ياسين” الذي كان يتركه والده وراءه قبل الخروج للسهر، كان يسير على نهجه، وما إن يغادر الوالد للعوامة حتى يتسلل هو خارج البيت لقضاء ليلة حمراء مع “زنوبة” التي كانت بدورها تناديه ب “البغل” وهي إحدى قريبات رفيقة والده في العوامة وسيتنهي به الأمر متزوجا بها … !
وبعد انقضاء السهرة يعود “السي السيد” للبيت لتستقبله زوجته “أمينة ” بالماء الدافئ، تغسل له القدمين، وتعد له الفراش للنوم …
وفي أحد الأيام بينما هي منهمكة في غسل رجليه ستقرر مفاتحته في موضوع كبير، خطير وجد مهم بالنسبة لها، ستقرر طلب شيء لنفسها، ستتردد كثيرا وطويلا، تتلعثم في الكلام، وتخرج الحروف من فمها بصعوبة كبيرة وبالكاد سيسمعها “السي السيد” …
إن لم يكن عندك مانع، وإن كان هناك مانع فسأصرف نظر عن الموضوع …
أريد … !
أرغب في … أرغب في زيارة أمي فلقد مر زمن طويل منذ آخر زيارتي لها منذ رمضان المنصرم، تقول أمينة …!
ينظر لها “السي السيد” نظرة كلها استغراب وقسوة واشمئزاز !
ما هذا يا “أمينة ” ما الذي تغير فيك مؤخرا، لماذا أصبحت هكذا … !
لماذا أصبحت طلباتك كثيرة … !
وبالرجوع لكلام جليسي هذا الصباح عن الناس ومطالبهم هذه الايام، فربما الكثير منهم حالهم يشبه حال “أمينة” التي صمتت طويلا، وتأخرت طلباتها دهرا، حتى أصبح ما هو بسيط منها … كثيرا !
وإلى الاسبوع المقبل.
كتب : الدكتور سعد ماء العينين