ليس خافيا أن التراث بشقيه المادي و اللامادي يمثل ” بصمة الهوية ووشم الانتماء[1]الذي يميز شعبا ما ويحدد أعمق مشاعره وأحاسيسه وعمرانه الممتد في الزمان و المكان، ولقد شدد أمين معلوف على أهمية المكونات و العناصر التراثية في تكوين الهوية الثقافية للمجتمع، إذ قال إن “كل واحد منا مؤتمن على إرثين: أحدهما عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعبه وجماعته الدينية.
والآخر أفقي يأتيه من عصر هو معاصريه “[2] ، و تتنزل القيم من الموروث الشعبي الحساني منزلة النسغ الساري في الأشجار يمدها بالحياة ، فلا حياة للأمم و الجماعات إذا زالت عنها القيم التي نختار من تعاريفها العديدة قول بركات أحمد لطفي : إنها ” مجموعة من القوانين والمقاييس تنشأ في جماعة ما، ويتخذون منها معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، وتكون لها من القوة والتأثير على الجماعة بحيث يصبح لها صفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف على اتجاهاتها يصبح خروجاً عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا”[3] ، ونظرا لتنوع القيم وأبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية ، فقد تعددت وجهات النظر إليها بحسب المدارس و الاتجاهات كما نقرأ بشيء من التفصيل في كتاب ” ارتقاء القيم ” الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة ، فإننا سنقصر النظر على جانب القيم الأخلاقية المبثوثة بين ثنايا الشعر الحساني المعروف عند أهله ب (لغن) تأكيدا لصلته الوثقى بالموسيقى و الغناء ، و لن نكل في تعقب نماذج شعر الوصايا و التوجيه النضاح بالقيم الأخلاقية ، بقدر ما سنربع على أنفسنا ، و ننتقي من أطايب القصيد ، طلعة جميلة استهوتني مطلع التسعينات ، و سجلتها بصوت الأديب الجليل الذي لم أدري يومها أنه نجل صاحب القصيدة نفسها ، ومن شابه أباه في الأدب فما ظلم . و لاشك أن الاستماع إلى ” الطلعة” بالصوت المباشر أهم و أفضل من قراءتها عبر الوسيط الكتابي والرقمي بعدئذٍ ،ذاك أن ” الكلام الحي ، على رأي جاك دريدا ، هو وسيلة الحضور المكتمل ، الحضور الذي يحقق تطابق العقل مع نفسه ، الكلام الحي هو وسيلة تجلي الوعي الانساني أمام ذاته بصورة شفافة تماما ، …. في المقابل تصبح الكتابة انتقاصا لذلك الحضور ، تصبح تشويشا لشفافية التجلي العقلي المتحقق عبر الكلام الحي… هي وسيط خارجي ، مادة غريبة تتم إحالة الوعي إليها لتمثله بصورة غير مباشرة (…)(لذلك) يلعن روسو الكتابة بوصفها تدميرا للحضور ، و بوصفها آفة الخطاب الشفوي”.
تكون الكتابة تدميرا حقيقيا رهيبا للإبداع /للنص الشفاهي عندما يخطئ ، يصحف ، يزيد ، أو ينقص الكاتب كما الراوي أيضا من الأصل الذي تلقاه المتلقي أول وهلة سليما من العيوب بصوت صاحبه الحي المباشر ، لذلك قال حكماء البيضان : ” ويل لغنا من حكايينو” ، و قالوا في امتداح الكتابة و التنصيص خوف الضياع و النسيان ” اللي خطاه النص يبكَى يطّمس” . إنه العمه الذي يصيبك حين تقرأ على الشبكة نصّا بديعا كطلعة : ” يمناتِ سمعُ وصيَّ ” غير منضبط شكلا و لا رسماً ، و للناس في رسم الحسانية شؤون ومذاهب ، لن يلتئم شتيتها المتفرق إلا بقرار يرسم الحسانية لغة وطنية تتحدد حروفها بشكل منضبط مطرد …
و بين يدي “القصيدة /الطلعة ” موضوع كلامنا ، لا مندوحة عن لفت الاهتمام إلى وجوب تحقيق المصطلحات و التحقق من دلالتها عند الاطلاق ، فالحكاية تطلق في المجال التداولي الحساني على رواية الشعر ، لكنها تتلبس في بالحكاية التي تعني ” الرواية LE CONTE” أو “لمردَّ” . و من المؤسف ، أن رواة الشعر قد اصبحوا قلة قليلة ، و أتمنى أن يتمحص الراوي ويتميّز عن الشاعر ، بحيث تكون الوظيفة الرئيسية للراوي هي رواية الشعر (الحكاية) كي ينقله عنه الكتبة ، أو يكتبه بنفسه منسوباً إلى أصحابه ، و أود أن أثني في هذا المقام على “عمل الرواة ” الذي استوى على سوقه كتابا جيد الطبعة تحت عنوان : ” شذرات من الشعر الحساني” ، و أتمنى صادقا أن يتم الانتباه إلى ضرورة ايلاء الاهتمام للرواة و إتاحة الفرصة لهم في الاذاعة و التلفزيون كي يرووا محفوظاتهم ومروياتهم تمهيدا لجمعها في كتب كما فعل المرحوم ولد سيدي ابراهيم السباعي بموريتانيا .
و يقودنا الكلام عن رواية الشعر (الحكاية) إلى مسألتين هامتين اثارهما الشعراء نظما :
-الأولى :مسألة الملكية الفكرية و الأدبية و وجوب تحصينها .
قال الشاعر :
انا لغنَ متعلق بيـــــــــه == الّلي منو مُلكي مـُلكي.
والّلي ماهو ملكي نحكيه==و الحكايـــــةُ ُكالمُلـْـــكِ
هنا السؤال ، هل الحكاية كالملك ، مجازاً : نعم ، لكن على سبيل الحقيقة ، هما مختلفان ، أن تروي شعرا لا يعني انك تملكه، لأن الملكية تنشئ حقوقا ووجودا ، فـأما إنشاؤها للوجود ، فينبثق من كون الشاعر لا يصير شاعراً إلا إذا امتلك ناصية القول الشعري وزنا ومعنى ، أنا أشعر /أقول الشعر = أنا أملك ، إذن أنا شاعر موجود ، فالإبداع من هذه الناحية يؤسس ذاتية أو لنقل هوية شخصية ، وفي تلك الذاتية مستويات يحددها النقاد بحسب كمّ الانتاج ونوعه (فلان مغنّ ، فلان بكَافو…) ، و أما إنشاؤها للحقوق ، فلأن الملكية تحصين للإبداع من عدوى الانتحال و السرقة و الاغارة .
الثانية : وجوب تحصين مجال الشعر الحساني من أدعياء الشعر
حَدْ اسْكَتْ عَنْ كَولْ الْمَوْزُونْ مَاهِ شَيْنَ غَيرْ الٌ شَــــــيْن
حَدْ إكُــــــولُ مَاهُ مَــــــوْزُونْ وَللٌ: مَــــوْزُونْ ءُلاَهُ زَيْن
وصولا إلى باب القصيد ، قصيدة / طلعة المرحوم ” خيّا” والد أستاذنا الجليل طالب بويا ، مفتتحها هذا الكَاف :
يَ مناتِسمعو وصية ~~~ من خيّـــا تبكٌــى تـُفكـَّر
لا تفشو كلمة دنِيــَّــــة ~~~ كصر الكلمة مايُجبَّر
يشع محيا القصيدة أو مطلعها نضارة و بهاء من حيث الصور و الدلالات ، إذ يبدأ بإعلان يشبه التعاقد مع المتلقي المخصوص (امنات) ، إذ أن الغرض الشعري مصرح به (وصية) ، و الوصية باب له أصول تمتد إلى القرآن (وصية لقمان) و إلى الأدب العربي القديم ، و من اللافت للانتباه ، ذكر المرسل (خيّا) ، وفي ذلك تثبيت لملكية الابداع و إثبات لهوية المبدع ، خلافا كثير من النصوص التي لا يرد فيها اسم المبدع الذي يزّاور في الغالب عن تسمية نفسه أو يختفي عند الارسال أو الانشاد خلف ضمير الغائب (كَال… و ليس قلت )، ومن جمال الوصل أن الشاعر ربط القول بذاته الفانية مشيراً إلى بقاء القول وخلوده بعده (من خيا تبكَى تفكر) ، وهذه أهم سمات الشعر و أخطرها : (التداول الخالد) . قال عمر ابن الخطاب : (ذهب ما أعطيتموه(الشاعر) ،وبقي ما أعطاكم .
وقال زهير بن أبي سلمى :
“ليأتينك مني منطق قذع /// باقٍ ، كما دنس القبطية الودك
و نلمس في كلمة (تفشو) مخايل التأثر بالمعجم الديني الاسلامي (إفشاء كلمة دنيئة ) ، غير أن جمال الصورة لا يكتمل إلا بالاستعارة الجميلة (الكلمة المنكسرة التي لا تنجبر ، و المنكسر في الاستعارة ليس هو الكلمة ،وانما الخاطر ) ، وهي تتساوق في التركة الشعرية الفصيحة من حيث المعنى مع قول الشاعر :
جراحات السنان لها التئام //// و لا يلتام ما جرح اللسان
لسانك لا تذكر به عورة امرئ //// فكلك عورات و للناس ألسن
و تنساب الوصية المفعمة بالقيم الأخلاقية كالماء الرقراق يطفئ لهيب عطش الظمآى ، فيحذر الشاعر البنات من الاستغواء الذي يباشره الوشاة مشددا على وجوب الاستمساك بنهج ” التبين من صح الاخبار:
و ذاك الحد اللي اجيكم
بالوشايــــــة وخاليكم
داير بيه يحوز اعليكم ~~~ حذرو منو صحت لخبر
خلو لمور اتجوليكم ~~~ تطرش لوذن يعمى لبصر
و من المفيد ، الانتباه إلى أن التشديد على عدم الانصات للوشاة ، يرتكز على إدراك عميق للسياق و تنساب الوصية المفعمة بالقيم الأخلاقية كالماء الرقراق يطفئ لهيب عطش الظمآى ، فيحذر الشاعر البنات من الاستغواء الذي يباشره الوشاة مشددا على وجوب الاستمساك بنهج ” التبين من صحة الاخبار:
و ذاك الحد اللي اجيكم
بالوشايــــــة وخاليكم
داير بيه يحوز اعليكم ~~~ حذرو منو صحت لخبر
خلو لمور اتجوليكم ~~~ تطرش لوذن يعمى لبصر
و من المفيد ، الانتباه إلى أن التشديد على عدم الانصات للوشاة ، يرتكز على فهم عميق للسياق الثقافي و الاجتماعي الذي يحذر ضمنا أو صراحة من وشاية الجارة و تلصصها (الجورة فتاشة) ، قال الأعشى :
ليس كمن يكره الجيران طلعتها /// و لا تراها لسرّ الجار تختتل.
[1]- علي أسعد وطفة، مقال حول: تحديات الهوية التراثية في عصر العولمة، ص: 12، منشور بموقع: http://www.watfa.net/bmachine/show.php?lessid=627(consulté le : 20-04-2013)
[2]- أمين المعلوف، 1999،الهويات القاتلة: قراءة في الانتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر، دمشق، ص: 92.
[3]- بركات أحمد لطفي ، 1986، في فلسفة التربية، دار المريخ للنشر، الرياض،ص : 250.