صبح البشكنجية.. بالحُب تسيَّدتْ وتحت وطأتِه سَقطت…

كتبت : الدكتورة العالية ماء العينين

عندما تتحدث الكتب عن تاريخ النساء عموما، وسير المشهورات على وجه الخصوص، لا يتم الالتفات إلى الجواري، إلا في حالات نادرة. وكأن التاريخ الرسمي للنساء حكر على “الحرائر”. لذلك فإن نتائج الدراسات والأبحاث حول المرأة في التاريخ العربي والإسلامي، ليست دائما دقيقة لأنها حذفت جزءا مهما من تاريخها قد يقلب الأفكار وكثيرا من الاحكام الجاهزة. قد يقال ولكن هذه الفئة كانت تحت سلطة تتحكم في أفعالهن ومصائرهن، ونقول والحرائر أيضا كن تحت سلطة اجتماعية تتحكم في أفعالهن ومصائرهن، فالتقسيم لم يكن على أساس الجنس بل الطبقة. أما بالنسبة لكون أغلبهن من جنسيات غير عربية، فهذا مردود عليه، فهل قامت الحضارة العربية الإسلامية، على العرب فقط؟ 

يقول ابن خلدون:” من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الاسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر … مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي..”

سبويه، ابن جني، ابن سينا، الفارابي، الفيروزبادي، الجرجاني، ابن فرناس، وغيرهم من الأسماء التي صنعت مجد الحضارة العربية الإسلامية، كانوا من أصول فارسية او رومية او امازيغية….

لقد كان للجواري عطاء متميز في مجالات فنية وأدبية وعلمية، شتى. ولكن من أهم أدوارهن، تأثيرهن الكبير على مجرى الحياة السياسية في الدول التي تعاقبت على الخلافة الإسلامية. يكفي أن نذكر كمثل على ذلك الخيزران بنت عطاء جارية المهدي وام الخليفتين موسى الهادي وهارون الرشيد، وهي عربية يمنية حسب أغلب المصادر، فقد كانت تتحكم في تسيير أمور الدولة في عهد زوجها، وحاولت ان تفعل نفس الشيء مع ابنها الهادي، الذي عارضها وحاول تقليص سطوتها. بل إن بعض الروايات تتهمه بمحاولة قتلها وخلع ولاية العهد عن أخيه هارون، يقول الطبري في تاريخه:” قال وحدثني بعض الهاشميين أن سبب موت الهادي كان انه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، خافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه…” 

صبح البشكنجية، إحدى الجواري اللواتي كان لهن شأن عظيم في دهاليز الخلافة الاموية في الاندلس، ملكت قلب الخلفية الحكم المستنصر بالله، ابن عبد الرحمان الناصر، والذي أطلق عليها اسم “جعفر” كما يقول ابن عذاري في “البيان المُغرب”. وزيادة على جمالها وشغف الحكم بها، فقد أعطته أول أبنائه، عبد الرحمان الذي توفي صغيرا، ثم بعده هشام المؤيد، وكان قد تولى الخلافة ولم يكن عنده ولد من قبل، مما عزز حظوتها في قلبه وداخل القصر، ودفعه إلى تعيين ابنهما وليا للعهد وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. يقول مؤرخ الأندلس ابن حيان القرطبي (377/469) في “أخبار الدولة العامرية” متحدثا عن الحكم بن عبد الرحمان الناصر،” إلا انه -تغمد الله خطاياه- مع ما وصف من رجاحته، كان ممن استهواه حب الولد وافرط فيه، وخالف الحزم في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة…فرط هوى ووهلة انتقدها الناس على الحَكم، وعدُّوها الجانية على دولته”. وابن حيان يشير هنا إلى إخوة الحكم، الذي كانوا في سن تؤهلهم لقيادة الاندلس.

وَوصْفُ الحكم برجاحة العقل، له ما يبرره في سيرة هذا الخليفة الاموي الذي اشتهر بحبه للعلم والعلماء، فقد كان يرسل في طلب الكتب من كل البلاد وبأغلى الاثمان. قال عنه ابن حزم (384/456) في ،جمهرة لسان العرب، :” وأخبرني تليد الفتى وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب، أربع واربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط”.  

وذكر المقري في نفح الطيب أنه،” قلما يوجد كتاب في خزانته إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده…”.  

هذه الشخصية العلمية، تميزت أيضا بالاستقامة والبعد عما عرف عن الخلفاء من ميل إلى اللهو، مع قوته كقائد، عرفت في عهده الاندلس استمرارا لمجدها الذي بلغ مداه في عهد أبيه عبد الرحمان الناصر. ولهذا نفهم استغراب كثير من المؤرخين استجابته لطموح جاريته وأم ولده. 

فرغم اختلاف الحكايات التي توردها المصادر التاريخية، إلا أن الثابت أن الخليفة الحَكم، كان واقعا تحت سطوة عشقه لصبح وأنه رغم حكمته وقوة شخصيته، خضع لرغبتها وأخذ البيعة لهشام، وهو دون الثانية عشرة من عمره، رغم وجود أمراء من البيت الاموي من بينهم اخوته. وقد كان لهذا الاختيار نتائج غيَّرت مسار الحُكم في الاندلس، واخرجته من يد الامويين إلى العامريين، نسبة للرجل القوي محمد بن أبي عامر، الملقب بالحاجب المنصور.

محمد بن أبي عامر الذي ساعد صبح على تمكين ابنها من الخلافة، دخل القصر في عهد الحَكم ، كوكيل لابنه عبد الرحمان وبعده هشام ، إلا أنه تمكن في ظرف وجيز من التسلق سريعا في مراتب الدولة إلى أن بلغ مجلس الوصاية (مع صبح والوزير المصحفي…) على الخليفة الصغير هشام المؤيد. فكيف بلغ المنصور هذه المكانة؟

لا تختلف الروايات على ذكاء الرجل وقوة شخصيته وشجاعته، وان هذه الصفات مكنته من انتزاع ملك الاندلس، بل وتوريثه لأبنائه. ولكن علاقته بصبح البشكنجية كانت من أهم الأبواب التي مكنته من تحقيق مطامحه. 

يقول ابن حيان في “أخبار الدولة العامرية: “وقيل أيضا إن سبب ظهوره كان خدمته للسيدة صبح البشكنشية…فكانت أقوى أسبابه في تنقيل الملك عما قليل إليه؛ فإنه استمال هذه المرأة بحسن الخدمة، وموافقة المسرة، وسعة البذل في باب الإتحاف والمهاداة، حتى استهواها، وغلب على قلبها؛ وكانت الغالبة على مولاها”.

ابن حيان، يشبه تعلق الحَكَمْ بِصُبحْ، بتعلق هذه الأخيرة بابن أبي عامر. كلاهما غلب الآخر على أمره. 

لقد أصبح ابن ابي عامر رجل الدولة القوي الذي تمكن بدهائه من تذليل كل الصعاب أمام خلافة هشام المؤيد. ساعد صُبحْ في إقناع الحكم بولاية العهد، وبعد موت هذا الأخير، استمال أقوى وزرائه، جعفر المصحفي ليقطع الطريق أمام الصقالبة الذين كانوا يستعدون لمبايعة المغيرة ابن عبد الرحمان الناصر، وقام بقتله. وبعد أن استتب الامر للخليفة الصبي، بدأ بالتخلص من منافسيه داخل أروقة الخلافة. فهل بقي وفيا للخليفة وأمه؟

الواضح من الاحداث التي تعاقبت، أن طموح ابن ابي عامر كان أقوى من “علاقته” بصبح، بل ربما لم تكن سوى محطة في مساره، لذلك لم يتوان في تحجيم دورها ومحاصرة الخليفة الصغير، وإبعاده عن الناس وكل ما يتعلق بالخلافة. ليبدأ عهد الدولة العامرية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد