الرجل الديبلوماسي الماسك بكل الخيوط، الهادئ بشخصية متزنة وأنيقة، واحد من جنود الديبلوماسية الوطنية، فكل من يتابع أنشطته وتحركاته الديبوماسية، لابد أن ينتبه إليها ويضعها تحت المجهر.
إنه ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، الذي يحافظ على ابتسامة هادئة في مواجهة صعوبة الملفات وتعقيداتها وخيوطها المركبة، وحتى في مواجهة الأسئلة المستفزة لخصوم المغرب، وكما يقول هو نفسه دائما: “أنا رجل ملفات”.
حقق في فترته نجاحات ديبلوماسية خفاقة أزعجت خصوم المملكة وأدخلتها في دائرة الارتباك والحيرة والتيه، بعد سلسلة من الافتتاحات المتوالية لقنصليات بلدان داعمة لسيادة المغرب على صحرائه في الأقاليم الجنوبية المغربية، مقابل سحب دول كثيرة لاعترافاتها بكيان “البوليساريو” الوهمي.
مولده ونشأته
هناك بمدينة تاونات المغربية المغربية، المعروفة برائحة زيت الزيتون الطرية المنبعثة من معاصرها بالشمال الشرقي للمملكة، أطلق ناصر بوريطة صرخة ميلاده الأولى يوم 27 ماي 1969.
استطاع بوريطة أن يجتاز العقبات الدراسية بنجاح، وبحصوله على الإجازة في القانون العام تخصص علاقات دولية من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط سنة 1991، نال بعدها شهادة الدراسات العليا في العلاقات الدولية ثم دبلوم الدراسات المعمقة في القانون الدولي سنة 1995.
إشعاع مهني
التفوق العلمي والأكاديمي وشهاداته الدراسية بالإضافة إلى ذكائه وفطنته وسرعة استيعابه لعمق القضايا السياسية، كلها عوامل أهلت ناصر بوريطة ليشغل منصب رئيس مصلحة الهيئات الرئيسية بالأمم المتحدة سنة 2002، وبذلك سيخطو أولى خطواته بثبات على بساط الدبلوماسية المغربية، وسيعين مستشارا دبلوماسيا ببعثة المغرب لدى المجموعة الأوروبية ببروكسل في الفترة من 2002 إلى 2003، ثم بعدها سيرتقي إلى مستوى رئيس لقسم بمنظمة الأمم المتحدة فمديرا للأمم المتحدة والمنظمات الدولية داخل وزارة الشؤون الخارجية والتعاون ببلاده في الفترة الممتدة بين 2006 و2009.
بعد ذلك، سيتقلد بوريطة، وفي زمن قياسي، منصب السفير مدير عام العلاقات متعددة الأطراف والتعاون الشامل التي سيختمها في سنة 2011 بتعيينه كاتبا عاما لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، وهو المنصب الذي شغله إلى أن عينه جلالة الملك محمد السادس وزيرا منتدبا لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون ثم وزيرا للشؤون الخارجية والتعاون الدولي في حكومة سعد الدين العثماني الحالية.
صاحب الضربة المقصية التي يحدث صوتها رعبا في آذان الأعداء والخصوم
وتيرة الإنجازات الدبلوماسية المغربية في عهد ناصر بوريطة، ارتفعت بعد أن كسب المغرب لصالحه ملفات عمرت لعقود في الرفوف، حيث لعب فيها ابن مدينة تاونات أدوارا ريادية ومحورية في حل الصراعات والأزمات الإقليمية.
الظهور الإعلامي لناصر بوريطة، وهو يحمل في يده المقص الخاص بقص شريط تدشين القنصليات التي تناسلت تباعا، قبل وبعد أحداث الكركرات التي حقق فيها المغرب انتصارا ديبلوماسيا كبيرا كان محط إشادة دولية واسعة، أظهر أن افتتاح 21 قنصلية لدول مختلفة إفريقية وعربية توزعت بين مدينتي الداخلة والعيون، لم يأت بالصدفة، وإنما طبخ على نار دبلوماسية هادئة بقيادة بوريطة وذلك انسجاما مع التوجيهات الملكية السامية.
تحركات بوريطة الرصينة التي زعزعت خصوم الوحدة الترابية جعلته نجما فوق العادة لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذي لقبوه بـ”قاهر العصابة”، وعلقوا على صوره المختلفة بالقول: ” تبغي تقوليه السلام عليكم يقولك بلاتي نحل شي قنصلية فالعيون ونرد عليك”.
الضربة المقصية القوية التي سجلها ناصر بوريطة، بافتتاح عدد من قنصليات الدول بالأقاليم الجنوبية للمملكة، توجت أواخر عام 2020 بإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وفتح قنصلية لبلاد العم سام في الداخلة “لؤلؤة الجنوب المغربي”، وذلك بعد مسار طويل للاتصالات الثنائية بين البلدين تعزيزا لعلاقاتهما الثنائية على جميع الأصعدة.
هذا الاعتراف الأمريكي، رافقه إعلان المغرب عودة العلاقات الثنائية بين المغرب وإسرائيل، من خلال تسهيل الرحلات الجوية السياحية لليهود المغاربة القادمين من إسرائيل، وهو ما تعاطى معه ناصر بوريطة، بمرونة تامة، عندما طرح عليه سؤال استئناف الرباط علاقتها مع إسرائيل قال في أحد تصريحاته: “المغرب كان دائما يضع علاقته مع إسرائيل والجالية المغربية اليهودية في خدمة السلام والقضية الفلسطينية، وخدمة حل عادل ودائم في الشرق الأوسط، وإن إعادة فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي لن تتجاوز ما كان عليه الأمر في السابق”.
التحركات الرصينة والمدروسة لناصر بوريطة وما رافقها من مكاسب دبلوماسية دولية جعلت خصوم الوحدة الترابية في حيرة من أمرها ومابقي أمامها سوى الافتراء والبهتان التي تنشره عبر أبواقها الإعلامية من أجل ترويج الوهم والأكاذيب التي أكل عليها الدهر وشرب.
أجبر الإعلام الدولي على سحب التلفظ بمصطلح الصحراء الغربية
بقوة شخصيته وحضوره اللافت، أجبر بوريطة في مناسبات عديدة الإعلام الدولي على سحب كلمة الصحراء الغربية وعدم التلفظ بها والاكتفاء فقط بكلمة الصحراء، والذي نال إثرها إشادة واسعة من قبل المغاربة، عندما ألزم صحافيا يعمل بقناة “فرانس 24” على سحب مصطلح الصحراء الغربية، والاكتفاء بمصطلح الصحراء فقط.
ترسيم الحدود البحرية واستئناف الحوار الليبي ملفات أخرى شهدت على تألق بوريطة الديبلوماسي
إنجازات بوريطة الدبلوماسية التي قادها لم تقف عند قضية الصحراء المغربية فحسب، حيث عمل المغرب على ترسيم حدوده البحرية قبل متم سنة 2020، في قرار وصف بــ “التاريخي”، حيث أكد المسؤول الديبلوماسي المغربي بالبرلمان على أن “المشروعين يتعلقان بحدود المياه الإقليمية، وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة على مسافة 200 ميل بحري، عرض الشواطئ المغربية، هما مشروعين تاريخيين”.
التألق والذكاء والحنكة الديبلوماسية كان حاضرا لدى “رجل الملفات” في قضية أخرى إقليمية والتي حقق فيها المغرب ما عجزت عنه باقي مبادرات العالم في استئناف الحوار الليبي لفض النزاع المسلح بين الفرقاء الليبيين، حيث تمكنت المملكة من إقناع الفرقاء بالجلوس إلى طاولة الحوار من خلال اتفاق الصخيرات في 6 شتنبر 2020، ليتوج بعقد سلسلة حوارات أخرى، ميزها الحياد المغربي في القضية.