كتبت : د. العالية ماء العينين
من الأخبار التي تحدثت بها بعض كتب التاريخ، نبوءة فارس بني أمية، مسلمةبن عبد الملك بن مروان، قائد حروبهم وغزواتهم.
تقول هذه النبوءة بأن مُلك بني أميةسيسقط في المشرق ولكن سيخرج منهم من سيعيد مجده في الغرب.
يقول ابن عذاري صاحب البيان المغرب” حدث عبد الرحمن فقال، دخلت الأندلس، وأنا أضبط جلية مسلمة ابن عبد الملك؛ فإنه أتى جدي هشاما يوما، فوجدني عنده صبيا، فأمر جدي بتنحيتي عنه، فقال له مسلمة:دعه يا أمير المؤمنين! فإنه صاحب بني أمية ومحيي دولتهم بعد زوالها! (فلم أزل أعرف لي مزية من جدي بعدُ).”
ومما يعزز هذه الحكاية، أن عبد الرحمان بن حبيب الفهري صاحب إفريقية، كان يعد نفسه بذلك لأنه سمع هذه النبوءة من يهودي كان في خدمة مسلمة بن عبد الملك. لذلك حاول قتل عبد الرحمان بن معاوية عندما مر به في طريقه إلى الاندلس.
ومسألة “النبوءة” وحضورها في التاريخ السياسي الإسلامي، تطرح أسئلة كثيرة حولت وظيفها لتحريك المشاعر وشرعنة كثير من الاحداث السياسية، ومن الأمثلة القوية على ذلك، نبوءة ذلك العراف الذي برأ هند بنت عتبة من تهمة تمس شرفها، من طرف زوجها(قبل أبي سفيان) وتنبأ لهابانها ستكون ام ملك، فقررت ان لا يكون من هذا الذي طعن في شرفها.
وهناك أيضا قصة عمرو بن العاص والكرة التي سقطت في حجره في إحدى زياراته للإسكندرية وهو تاجر حينها، وهي عادة ما تسقط عند الملوك والامراء، وهو ما تحقق لاحقا عندما عين واليا عليها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (ض)
فهل نعتبر ربط سيرة عبد الرحمان بالنبوءة، نوعا من التعظيم وإعطائها طابع الإعجاز؟ ولكن هل يحتاج هذا الحدث إلى ما يثبت إعجازه؟
سيرة الداخل، مثال حي لإمكانية النهوض من الرماد. فبعد أن استباح العباسيون دولة بني أمية سنة 132هـ ودكوا أركان ملكهم، وأعملوا السيف في رقابهم فلم يسلم منهم إلا النساء والأطفال، بل إنهم نبشوا قبور خلفائهم وامرائهم، ومثلوا بجثثهم وصلبوها. بعد كل هذا، لابد ان تكون نجاة عبد الرحمان بن معاوية، في مغامرة تشد الانفاس، حدث مبهر ومعجز بكل المقاييس. أمير لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، انقلبت حياته من الترف وعيشة القصور ليصبح بين عشية وضحاها، شريدا مريضا بالرمد، مطاردا من المسوِّدة، الذين تربصوا به في كل مكان وطأته قدماه.
انطلق وحيدا ليس معه سوى خادمه بدر، بعد أن قتل المسوِّدة اخاه الأصغر الذي كان يرافقه، خلال عبورهم نهر الفرات سباحة، ولم يستطع مواصلة السباحة، فعاد إليهم مصدقا وعدهم، فقتلوه امام أعين عبد الرحمان الذي أكمل طريقه، ليبدأ شوطا آخر في مغامرته.
في القيروان تربص به صاحبها عبد الرحمان بن حبيب الذي ذكرنا خبره مع النبوءة، فلم يجد ابن معاوية بُدًّا من الهرب. وهكذا كان حاله في كل المناطق التي وصل إليها، إلى ان بلغ مضارب قبيلة” نفزة” المغربية، اخواله الذين احتضنوه ومهدوا له لاستكمال الطريق نحو حلمه/النبوءة.
عندما وصل إلى الاندلس، بعد أن سبقه مولاه بدر ليدبر له دخوله، لم يكن الأمر بسيطا فقد وجد نفسه في مواجهة آخر ولاتها يوسف بن عبد الرحمان الفهري، المدعوم من القيسية بزعامة فارسهم الصميل بن حاتم، فكانت معارك طاحنة وصراعات انتهت بهزيمة الفهري ومقتله.
ولكن نار الفتنة لم تخب ولا وضعت الحرب اوزارها بين الثورات والفتن ودسائس بني العباس، التي كان ينجو منها ببراعة أدهشت أبا جعفر المنصور الذي قال لجلسائهأخبروني: من صقر قريش من الملوك؟
“قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء!
قال: ما قلتم شيئا!
قالوا:فمعاوية؟
قال: لا! … صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا، منفردا بنفسه؛ فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته.”
عبد الرحمان الداخل، حقق “نبوءة” عمه، وأعاد لبني امية مجدهم الذي دعسته قوائم خيول بني العباس في المشرق. واستطاع تأسيس إمارة اموية اسلامية قوية في الاندلس، ستعيش لأكثر من ثلاثة قرون قبل أن تسقط الاندلس في الفتنة مجددا ويحكمها ملوك الطوائف.
يقول في الرد على من اعتبروا ملكه، حظاً:
ويقول قومٌ سعده لا عقله ____ خيرُ السعادة ما حماها العاقلُ
أبني أمية قد جَبَرنا صدْعَكمْ ____ بالغرب رغما والسعود قبائل
هذا الأمير الذي دانت له الدنيا وأقبلت عليه ووهبت له الملك،وحكم أجمل بقاع الأرض، بقي أسير حنين لم يفارقه، ولا استطاع المجد ان ينسيه غصة الفراق والبعد عن رصافة جده هشام بن عبد الملك…
قال لما رأى “نخلة” حركت هواجسه:
تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلـــــةٌ ____ تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى ____ وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبــــةٌ ____ فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي