كتب النقيب عبد الرحيم الجامعي، رسالة بليغة في عدد سابق من جريدة أخبار اليوم، حول قرار جنائي وضع القطيعة ما بين توظيف شكليات مسطرية غير مؤثرة وما بين مبررات الطعن بالنقض القوية الناجعة، وهذا نصها نقدمه بين يدي قرائنا:
تتحصن القرارات القضائية وتسمُو بإلإعْمَــال الحقيقي للقانون ولأحكامه حتى ولو لم يطلبه أطراف الدعوى أو أخطؤوا في الإحالة عليه، والقضاة غير مُخيرين في الحكم طبقا للقانون دون مراعاة لموقع الاطراف أو لمراكزهم الاجنماعية أو لمناصبهم، وهم بذلك يوفرون الأمن القضائي والقانوني للمتقاضين وأجرهم مقابل ذلك هو ثقة الناس فيهم وامتثالهم لأحكامهم القطعية.
إن القضاء مدرسة وليس له إلا أن يكون كذلك دون منافس من خلال شجاعة قضاته وجُرأتهم في قراراتهم وتوجهاتها المُجددة والجَـــيدة.
ومن هنا استوقفني قرار جنائي حديث صادر يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الجاري عن غرفتين مجتمعتين بمحكمة النقض تحت رئاسة رئيس الغرفة الجنائية الرابعة الأستاذ ماء العينين أحد عمداء المحكمة، قررتا فيه وضع القطيعة ما بين توظبف شكليات مسطرية غير مؤثرة وما بين مبررات الطعن بالنقض القوية الناجعة، حيث رفعت الغرفة الجنائية المعنية اللبس بقرارها عن العمق الدستوري لمقتضيات المادة 124 التي تنص بأن الأحكام تصدر باسم الملك وطبقا للقانون.
لقد رفضت الغرفتان طعنا بالنقض استعمل فيه الطاعن ضمن وسائل النقض وسيلة عدم تصدير القرار الاستينافي في افتتاحه وديباجته بعبارة “باسم الملك وطبقا للقانون”، واعتبرت أن صدور القرار باسم الملك فقط لا يصيبه بأي عيب شكلي ولا يعرضه للنقض والإبطال.
وهنا لابد من الإشارة أولا، أنه وفي الكثير من الأحيان تتسرب الإخلالات المسطرية والجوهرية للقرارات النهائية سواء عند تحريرها أو عند تعليلها، فتضيع العديد من الحقوق وأحيانا تصاب الحريات وتتكسر حياة ومستقبل العديد من المتقاضين جراء ذلك، ويستفيد غصبا البعض من اطراف الدعوى او من صناعها تبعا لذلك من مكتسبات مادية ومن منافع معنوية أو من مراكز قانونية ويحصلون على ما ليس من حقهم الحصول عليه، ولابد من الإشارة ثانية وبوضوح أن من وراء تلك الأخطاء والتسريبات التي تصيب القرارات الاسينافية إما التسرع او التهاون أو الفساد أو الانحراف… وهي التي تفتح الباب لبعض من المتقاضين لاستعمال ذلك الخلل مثل إغفال عبارة” وطبقا للقانون” للحصول على نتيجة فوق طابق من ذهب وهي نقض القرار لفائدته وما كان له ذلك إن اتخذت الهيئات الحاكمة الحذر عند تحرير قراراتها وانتبهت لما يمكن أن تقع فيه من إغفال أو نسيان لكي لا يَسعملها ويُستغلها متربص أو سيئ النية من اطراف الدعوى الذي يكون قد خسر قضيته.
إن حرص الغرفتان في قرارهما أعلاه، واعتبارهما أن عدم إشارة قرار استينافي ما أنه صدر طبقا للقانون ومكتفيا بالنص على أنه صد باسم الملك فقط، هو قرار سليم ونظيف من أي عيب ولا يؤدي إلى إبطال ونقض القرار، وحِرصهما كذلك على توضيح وإعلان هذه القاعدة هو تأكيد منهما أن الفصل 124 أعلاه تجب قراءته من داخل الباب السابع من الدستور وفهمُه فهما متناسقا ومتكاملا مع مقتضيات أعم وأسبق ومنها مقتضيات المادة 110 التي تأمر القضاة بالالتزام في كل ما يقومون به من مهام قضائية بتطبيق القانون و ضرورة التقيد عند إصدار الاحكام بالتطبيق العادل للقانون، أي أن الشغل الشاغل لقضاة الأحكام ليس سوى تطبيق القانون فمنه ينطلقون وإليه ينتهون وهو لصيق بهم وهم منه يستلهمون العدل والإنصاف لتقوم المحاكمة العادلة، وبالتالي ليس من أسباب وسائل نقض القرارات إغفال تصديرها بعبارة ” طبقا للقانون ” مادام القضاة مقيدون وفي كل مسطرة بأمرين الاول التطبيق السليم للقانون والثاني المراقبة الذاتية بالضمير النزيه، علما أن العديد من القرارات التي تحتفظ في مقدمتها بعبارة وطبقا القانون تكون بعيدة عن القانون أو محرفة له أو بعيدة عن فهمه.
إن الغرفتين المجتمعتان اليوم وضعتا حدا قضائيا شجاعا لكل مُزايدة مِسطرية قد تُستغَل لضَرب قوة القرارات ومصداقيتها وضرب حقوق الناس من جراء إغفال غير مؤثر على سلامتها أو مُقوض لمصداقيتها وهو عدم الاشارة أنها صدرت طبقا للقانون سواء بسبب إغفال أو بنية مبــيته، واعتبرتا بجدية ودون التفاف أن مسألة تصدير القرارات والأحكام القضائية بكونها صدرت طبقا للقانون ليس هو الذي يضفي عليها المصداقية و الحماية والسلامة ويجعلها فعلا مطابقة للقانون وملتزمة به، فعبارة “طبقا للقانون” كتصدير شكلية غير مؤثرة مادام أن أي حكم إن لم يطبق القانون العادل يفقد قيمته ولا يمكن أن ينسب لقضاة يحترمون أنفسهم ووظيفتهم وضمائرهم، إذ أن قيمة القرارات من حيث القانون السليم والعادل يظهر في عمقها أي يظهر من خلال حيثياتها ومن خلال أسبابها ومن خلال استقلال وحياد قضاتها ومن خلال اطمئنان المتقاضين لها وثقتهم في من يصدرونها، فإن توفرت كل هذه العناصر في القرارات والأحكام توفق قضاتها وأصبحوا مبدعين في فن رفيع هو فن صناعة الأحكام ونحتها.
أتمنى أن يكون قرار الغرقتين المجتمعين الصادر اليوم، بما أتى به من مستجد متين وسليم، بداية طريق لمبادرات واجتهادات كبرى تعزز حقوق الدفاع وقيم المحاكمة العادلة وترفع من مستوى التعاطي مع مقتضيات الدستور خصوصا التعاطي مع ديباجته ومع مقتضيات الفصل 19 المتعلق بالحقوق والحريات، فما أحوجنا بعمل قضائي يحمي الناس من الظلم ومن الشطط و يفصل بين طموح الدولة والسلطة وبين تطلعات المواطنين في الأمن القانوني الحقيقي والعدالة دون حسابات سياسوية.
وحتى لا ننسى المثل الاغريقي القائل: QUI SEME LA JUSTICE A UN SALAIRE VERITABLE
الرباط 27 دجنبر 2016