فاطمة طحطح سيدة الدراسات الاندلسية

كتبت : د. العالية ماء العينين

من اللحظات العميقة الدلالات، تلك التي نلتئم فيها للاحتفاء بأسماء مضيئة في سماء العلم والفكر والادب، خصوصا أولئك الذين تعودوا على الاشتغال بدون ضجيج ولم يسعوا يوما إلى الاستعراض أو البحث عن الظهور، رغم اننا في أَمَسِّ الحاجة إلى أصواتهم وحضورهم.

الدكتورة فاطمة طحطح التي تشرفت بالتلمذة على يديها، وغرفت من معين فكرها ووافر علمها انا وغيري من طلبة العلم، الذين يدينون لها بالكثير ويحملون لها محبة وتقديرا كبيرين.

عندما أعلن نادي القراءة عن هذا اللقاء، على وسائط التواصل الاجتماعي، تفجرت ينابيع محبة صافية، انقل لكم بعض رذاذها:
الناقد المتميز الدكتور إبراهيم الحجري يكتب على صفحته: تكريم مستحق لأستاذة استثنائية تخرجت على يديها أجيال من الباحثين والاساتذة، عُرفت بأخلاقها الرفيعة وتقديرها لطلبتها ومساعدتهم على تجاوز العوائق، فضلا عما قدمته للبحث في الآداب الاندلسية التراثية والإسبانية الحديثة من اعمال جليلة تشهد لها بالكفاءة في تخصصها…

وحملني صديقي العزيز أمير الشعراء الدكتور ادي ولد ادب، الباحث الموريتاني المتميز في الأدب الاندلسي، رسالة تقدير واحترام لها، مضيفا في وصفها:” وأعطت بأخلاقها وطيبتها للأجيال ما يفوق التقدير…

وكتب الاستاذ الحبيب الناصري، محتفيا بالمحتفى بها:” الدكتورة فاطمة طحطح نموذج للمرأة المغربية الراقية والباحثة المتميزة التي قدمت العديد من الخدمات للعديد من الأجيال المغربية، فكيف ننسى وجها نسائيا مغربيا معطاء؟”

وأقف هنا لأطمئن الأستاذ الفاضل، الذي تساءل عن الأجيال الجديدة، وهل تعرف ما قدمته أستاذتُنا؟ لأقول له بلى، ولا أدل على ذلك من هذا الحضور الكبير الذي يكشف عن معرفة عميقة واحترام كبير لأستاذتنا الجليلة.

وعلى نفس النهج سار العديد من طلبتها داخل المغرب وخارجه، والذين تمنوا لو كانوا بيننا في هذه الجلسة المباركة، وأرسلوا شهاداتهم التي استمعنا لبعضها…

منذ التحاقها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في بداية الثمانينيات، كأستاذة ملحقة بالكلية، فتحت أستاذتنا، الدكتورة فاطمة طحطح، أبواب البحث والدراسة على الأدب الاندلسي، بدءا من موضوع رسالتها لنيل دبلوم الدراسات في موضوع:” الشعر الاندلسي في عهد المرابطين”، وانتقالا إلى موضوع دكتوراه الدولة:

” الغربة والحنين في الشعر الاندلسي”. فكانت بداية مسار حافل بالأبحاث والدراسات، عززه كرسي الأدب الاندلسي الذي اقتعدته، عن جدارة واستحقاق وبشكل رسمي سنة 1985.

عندما أستحضر استاذتي الكريمة، تحاصرني الشخصيةُ الهادئة، الحالمة، الواثقة، الانيقةُ حضورا وتعاملا، والوقورة المتواضعة التي احتضنت أسئلتَنا واندفاعَنا ونزقَنا المعرفي…

أول ما نفتتح به دروس الأدب الاندلسي، هو أصل هذا الاسم، وتتعدد التفاسير والقراءات، منها ما هو تاريخي ينسبه إلى قبائل الوندال “فاندلوسيا” أو اسطوري، يعود به إلى أحد أبناء نوح، او الملوك او الشعوب التي استوطنت شبه الجزيرة أو لغوي كوصف لأراضي شبه الجزيرة باللغة القوطية…، ولكن الشيء الثابت، أن اسم “الاندلس” اكتسب معانيَ كثيرة، ارتبطت به راكمتها تجربة الثماني قرون، هي الجمال، الحنين، الشعر، الفردوس،ملتقى العلماء، الانفتاح،مجمع الحضارات وتفاعلها…

وهذه بالذات باقة صفات وسمات، اختزلتهافاطمة طحطح الإنسانة والباحثة والعالمة، طيلة مسارها، الذيأغنت خلاله خزانة الغرب الإسلامي بدراسات كثيرةوعميقة، حركت الراكد في الفكر الاندلسي أدبا وعلما وفكرا..

هناك مقولة للشيخ ماءالعينين، يصف فيها مراتب العارفين والاولياء، فيشبههم بالقربة، التي تحدث صوتا كلما كان محتواها قليل، ولكنها عندما تمتلئ، لا يسمع لها صوت…

وقِربة استاذتنا مترعة بالأبحاث والدراسات والأعمال الرائدة ولكن بدون جعجعة ولا ضجيج فارغ. وهذه بعض النماذج وهي قليل من كثير، ساهمت بتعميق البحث في بعضها، وكان لها قصب السبق وفضل البداية والاكتشاف في كثير منها. في سنة 1987، صدرت للأستاذة طحطح، دراسة تحت عنوان، “الشعر الاندلسي والإشكال المنهجي”، نشرت في مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-تطوان، وقد طرحت فيها مجموعة من الأسئلة التي خرجت بها من رسالتها لنيل دبلوم الدراسات العليا، والتي أشرنا إليها سابقا.وناقشتها بعمق منهجي، وأضاءت على الهنات العلمية التي يجب التعامل معها بحذر، خلال البحث في هذا التراث الشعري الكبير، وكأنها ترسم خارطة طريق لأبحاثها القادمة، والتي توسعت وتشعبت وأثمرت…

وهذا بعض من قطافها:
التجربة الدينية في شعر ابن الخطيب -ابن حزم الاندلسي الشاعر – الشعر الاندلسي في تجاربه الإنسانية الكبرى – صورة المرأة في الشعر الاندلسي- القصائد الثغرية والزجل الاندلسي أية علاقة…وغيرها من الدراسات.

ولأنها امتلكت قناة العبور بين اللغتين العربية والإسبانية، فقد منحتها اقتدارا كبيرا على التنقل بين الضفتين، وإضاءة خيوط الربط بين الحضارتين، وامتلكت أدوات النبش والقراءة بل ومكنتنا من إيصال صوتنا ورؤيتنا إلى مجتمع إسباني جمعنا به تاريخ مشترك وفرقتنا القراءات التي كثيرا ما جانبت المنهج العلمي، وسقطت في حبائل الأيديولوجيا. يكفي ان نتحدث عن تجربتها المتميزة في المجموعة البحثية التابعة لجامعة غرناطة والتي تحمل عنوان ” مدن اندلسية في ظل الاسلام “، وهي العنصر العربي الوحيدبين جماعة من المستعربين الغربيين. وتقوم هذه المجموعة كل عام بإصدار كتاب عن مواضيع تهم الأندلس، ومن بين الدراسات التي قدمتها أستاذتنا ضمن هذا المشروع العلمي الكبير، نذكر:

“المصادر القديمة والحديثة للأدب الاندلسي في العهد النصري” 1997
“الشعر الاندلسي في القرن الخامس عشر- ظواهر تيماتية ورمزية” 1998

وهناك أبحاث اخرى كثيرة بالإسبانية قدمتها الأستاذة في إطار لقاءات او مشاريع علمية أخرى مختلفة:

“التصوف بالأندلس بين القبول والرفض من خلال كتاب ” العواصم من القواصم” لابي بكر بن العربي، صدرت ضمن كتاب جماعي لأعمال المؤتمر الدولي الرابع لدراسات التشريع الإسلامي…

“ابن الخطيب وهاجس الرحلة نحو التطهر والخلاص” – “مظاهر التسامح في رحلة بنيامين بن يونة الأندلسي”…

وغيرها كثير، نتمنى ان تستقبل المكتبة العربية، ترجمات هذه الإنتاجات المهمة التي ستغنيها وتفيد الدارسين والباحثين في دب الاندلسي…
طبعا إذا أردنا تتبع العطاء العلمي لأستاذتنا لن نتوقف، والوقت لا يسمح ولكن لابد من التأكيد على ان الاندلس وكما كانت محطة تفاعل ولقاء وانفتاح، فإن الأستاذة طحطح ورغم هذه الروابط التي شدتها إلى الأندلس إلا انها حفرت في أراض فكرية وعلمية متنوعة فقدمت دراسات في الأدب المغربي الحديث، والأدب العربي عموما، ومنها:

الكتابة عند محمد الصباغ من خلال مجموعة “تطوان تحكي” –النكور مركز حضاري وادبي – القدس في الشعر العربي المعاصر- أحمد المجاطي شاعر المغربي – مفهوم الكتابة النسائية (بالإسبانية)

كما أنها مثلت المرآة المغربية والعربية خير تمثيل في محاضراتها المتعددة في بقاع كثيرة من العالم، المكسيك الولايات المتحد الأمريكي’ بجامعتي، سان جون وكولومبيا بنيويورك، ودول أوروبية كثيرة في مقدمتها اسبانيا، التي درَّست فيها.

من بين اهم الدراسات التي قامت بها الدكتورة طحطح،كتابها “الغربة والحنين في الادب الاندلسي” هذه الدراسة العلمية الرصينة لواحدة من اهم الظواهر الأدبية في الشعر الاندلسي،والذي أدين له بهذه العلاقة الجارفة التي ربطتني بالأندلس وآدابها. وهي الدراسة التي مكنت أستاذتنا الجليلة من احتضان الاندلس بكل صورها، يكفي أن نذكر الحنين والغربة لتنتصب الاندلس رمزا ثابتا.

تقول في مستهل كتابها: ” يمكن ان نزعم أن الشعر الاندلسي في معظمه شعر غربة وحنين”، فلا عجب ان يكون هذا المدخل بداية لجولات وصولات في ثمار الاندلس الإسلامية، العربية المغربية الاسبانية..

هذا العمل يستمد قيمته من علميته وحفره العميق في هذا الجانب الإنساني، المتجدد بتجدد التجربة الإنسانية، كما تقول الدكتورة طحطح، فهو ربطٌلتراثنا الشعري بالشعر العالمي الذي يتحرر من الظرفية الزمانية ليعانق كل ما هو شامل وخالد في الوجدان البشري وهذا تماما ما عملت عليه لاحق في دراساتها المتنوعة والمنفتحة على ثقافات العالم ولغاته.

ـــــــــــــــ
ألقيت هذه الشهادة خلال اللقاء العلمي الذي نظمه القطب الثقافي لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ونادي القراءة والكتابة التابع لها، تكريما للدكتورة فاطمة طحطح، بتاريخ 12 أبريل 2021

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد