بقلم الأستاذة سعيدة بركاتي / تونس
نص دون عنوان ، تدخل مباشرة في قراءته …لعلك تجد له عنوانا
تأخذك المعاني بعيدا لتسبح في عمق المجاز و تلك الكلمة التي نقولها من واقعنا حين نريد أن نلغي من الحديث أو بعضا منه ” لا علينا ” حتى نغير شيئا من السائد.
يقول الشاعر:
قاسٍ غيابُكِ مثل هذا الصيف
أو أقسى قليلاَ
هل أحبّكِ؟… ربّما
أو أشتهيكِ ولم أجدْ موتا بديلاَ
لا علينا…
يأخذني السطر الأخير في المقطع الأول إلى واقعنا هذه الأيام حرارة عالية لا تُطاق ، كغيابها عن الشاعر ” لا يُطاق ” ، غياب قاسي و أقسى قليلا ، ليتساءل هل أحبّكِ؟ هو حديث ذات مع ذاتها ، تبحث عن جواب ، و فيه بعض التمني لو يجد الإجابة منها ، تلك التي تستحق حبه.
بين ” أو ” و ” ربّما ” ، أو كانت أكثر قسوة ، و ربما للحبّ و الشهوة ، و ليست شهوة جنسية ، بل هي شهوة من واقعنا ” كم أشتهي أن أراك ” ، شوق وجد و شوق عين ، و شاعرنا يذكر الموت ” لم أجد موتا بديلا ، بديلا لمَ؟ كذلك هو ” فعلا ” ما نقوله ” سأموت لو لم أراكِ ” ، فالموت بمعناه المعنوي و ليس المادي ، موت شوق و حنين يفنى بمجرد رؤية الحبيبة او المعشوق عامة
عن شدة الشوق قال كثير من الشعراء:
و بي شوق إليك أعل قلبي
و مالي غير قربك من طبيب
الشريف الرضى
لئِن غِبتَ عن عَيني وشطَّت بكَ النَّوى
فأنتَ بقلبي حاضِرٌ وقريبُ
خيالُكَ في وَهمي، وذِكرُكَ في فَمي
و مَثواكَ في قلبي، فأينَ تَغيبُ؟”
أبو بكر الشبلي
لا علينا…
لنمر إلى المقطع الثاني فالشاعر يسأل:
كيف حالك؟
مَا رصيدك من ضحايا اليوم
يا النار الخجولةْ؟
هل رأيت الله في التلفاز
يبدو قاتلا حينا وأحيانا قتيلا
لا علينا
مدجج هذا المقطع بالإستفهامات : كيف / مَا/ هل / : و أتساءل أنا مَا به شاعرنا ؟ يسأل دون ان ينتظر الإجابة ، وأيّ نار هذه الخجولة ؟ نار عشق ، نار شوق ، نار حرب ام نار ” النار ” ،!؟ هذه النار لها ضحايا ، و كل نار ذكرتها لها ضحايا ، و لكن نار شاعرنا هي نار المعاناة في الضفة الأخرى ، نار خجولة مما يدور من رحى حرب في الساحات الأخرى
هذا السؤال كيف ستكون الإجابة عنه :
هل رأيت الله في التلفاز ؟
يبدو قاتلا حينا وأحيانا قتيلا
لنتفق أوّلا على تعريف الإله : بأنه ذو طبيعة فوق طبيعة البشر، وذو قدرات خارقة، يقدسه ويعبده الإنسان…، ويعرف الإله لغوياً جاء في لسان العرب (إله) أن الإله هو الله، وأن كلّ ما اتخذ من دونه معبوداً إله عند متخذه وأن الجمع آلهة…
أمّا أن نراه في التلفاز ، قاتلا حينا و مقتولا أحيانا ، هنا نستدرك و نتعجب ، و نبحر في عمق المجاز…
تتدفّق الأخبار يوميا بصورها و أصواتها ، نكاد نشم رائحة القنابل و الدم المراق في ساحة الحرب ، إلهنا هو مسؤول على خلق هذا الكون ، و هذه الأرض ، كم شكونا و تضرعنا و دعونا إلهنا خالقنا…
فإله التلفاز القاتل و المقتول ، هو ذاك الشاهد ” بعين إله ” كان بإمكانه أن يمنع هذه الحرب إله شاعرنا هي الإنسانية التي ترتقي إلى مرتبة الآله طبعا دون الوصول إلى الألوهية المطلقة ، فالإنسانية تُباد في العديد من بقاع العالم تحت ظلم و طغيان البشر الذين استحالة ان يرتقوا إلى مرتبة الإنسانية ، إله نصنا كان على فم الأطفال و النساء ، كان في أرض الإبادة الجماعية…
لا علينا ، بل هنا علينا ان نقف و نرى بعين هذا الإله ، ألم يجعله الله خليفته في الأرض ؟ نعم لا حرج ان نقول الإنسان خليفة الله في الأرض قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) سورة البقرة …
مقطعين كانت حرارتهما مرتفعة ، صيفا و نارا ، آن و أنين
هل قصصت على الليالي والبناتِ
حكاية القنّاص .. كيف غدا رسولا؟.
هل ندمت على النجاة
وصحت في ملكوتك السريّ:
سحقا للشهامة والرجولةْ
أم صنعت لطيفيَ المحزون إكليلا جميلا؟
يواصل المبدع أسئلته ، و بعد كل كلمة ” لا علينا ” يبدأ مقطعا من النص و كأنه نصا قائما بذاته…
يقول : هل قصصت على الليالي والبناتِ
حكاية القنّاص .. كيف غدا رسولا؟
نقف عند ” القنّاص ” ، تداولنا هذه الكلمة كثيرا في فترة سابقة من حياتنا ” ” الثورة ” و قلت ان كل مقطع كأنه نص قائم بذاته ” ، صيغة مبالغة من قنص ، فالقنّاص هو الشخص الذي تدرب على إطلاق النار بدقة على الأهداف الصغيرة جدا أو البعيدة، وفي أكثر الأحيان هدف القنّاص هو الإنسان العدو.
كيف غدا رسولا ؟ نعود إلى المقطع السابق و نربطه بهذا القنّاص ، و أتساءل فقط هل هو قنّاص المسافة صفر ؟
و بات حكاية و خرافة الليالي للبنات كحكاية ظريف الطول، و لماذا البنات ؟ لأن كل بنت أصبحت تحلم بفتى أحلام يكون قناص العدو ، كما حلمن سابقا بفارس على حصان أبيض
في سؤاله ” هل ندمت على النجاة ؟ ممَ ؟ من الحب أم الموت ؟ ام لكثرة العدد و قلة الصفة ؟ نحتار فعلا و قصد الشاعر ، هذا المقطع جعلنا ندور حولنا و كأني به هذيان ، فحين تأتي الأطياف ، فهذا شدة شوق و حنين ، لكن هذه ” سحقا ” لا تقال إلا للدعاء عليه ، و تقال للمنافق ، فنحن فعلا في زمن يكاد يخنقنا النفاق
لا علينا
كلّ ما في الأمر أنّي
في جنان الأرض عشّ دون طيرْ
خلاصة القول ان الطيور إن لم تجد أعشاشها تهاجر و تنفر المكان و طيور تعشق أعشاشها و لو كانت على عود يابس ، شاعرنا مسكنه خاوي ، فارغ وكره دون طير رغم ما يحيط به من جنان هذه الأرض ، شاعرنا في سؤاله :أم صنعت لطيفيَ المحزون إكليلا جميلا؟
الشاعر حزين و طيفه محزون ، و داخله ” عش دون طير ” ، فالسؤال أعلاه : هل أحبكِ ؟ هو أمل أن تحبه
امنية لو كان طيفا يمر بذات الديار حتى يعمر العش الذي دون طير ” و هنا اشارة إلى القلب عساه بحب الحبيبة يعمر ” ، و جنان الأرض تلك الحسنوات … لكن قلبه لا يتسع إلا لواحدة ، كالعش تماما ، ذكر و أنثى واحدة
و كوني بخيرْ : هذه آخر الأمنيات
به أو دونه كوني بخير
____________________
النص رسالة إلى حبيبة اسمها وطنا ، ربما ، أو حبيبة يتمناها قلب الشاعر ، كان فيها الصيف و النار ، فيها القناص و الحكايا ، فيها الإله و الإنسان ، فيها الرجولة و الأحلام … نص فلسفي وجودي ، مونولوجا حاور فيه الشاعر ذاته عن طريق مساءلتها ، يبقى للمتلقي تأويلها و للشاعر وحده مجازها و معانيها ، قلت نص بمثابة رسالة حين اختتمه الشاعر ب ” كوني بخير ” تكررت فيه كلمة لا علينا لجلب انتباه القارئ كي يغوص في معانيه ، لا علينا كلمة قريبة منا و من كلامنا المتداول يوميا ، نقولها لتغيير مجرى الحديث او غض النظر عن موضوع ما ، لذلك كان النص بعد كل ” لا علينا ” نصا متجددا قائما بذاته . فهل يمكننا ان نعطيه عنوانا : ” لا علينا ” ، فهو يليق به إن سمح لي الشاعر محمد الهادي الجزيري
امنيتي فقط اني وصلت ولو لنقطة من بحر هذا النصّ…
#النص
قاسٍ غيابُكِ مثل هذا الصيف
أو أقسى قليلاَ
هل أحبّكِ؟… ربّما
أو أشتهيكِ ولم أجدْ موتا بديلاَ
لا علينا…
كيف حالك؟
ما رصيدك من ضحايا اليوم
يا النار الخجولةْ؟
هل رأيت الله في التلفاز
يبدو قاتلا حينا وأحيانا قتيلا
لا علينا
هل قصصت على الليالي والبناتِ
حكاية القنّاص .. كيف غدا رسولا؟.
هل ندمت على النجاة
وصحت في ملكوتك السريّ:
سحقا للشهامة والرجولةْ
أم صنعت لطيفيَ المحزون إكليلا جميلا؟
لا علينا …
كلّ ما في الأمر أنّي
في جنان الأرض عشّ دون طيرْ
كوني بخيرْ