ما إن حكمت الأقدار سنة 1934 بوضع حد لتلك الملاحم الخالدة التي كان بطلها(جدي للأم)الشيخ مربيه ربه ابن الشيخ ماءالعينين، وهو في بلدة أكردوس قرب مدينة تيزنيت، يدير عمليات بطولية نادرة ضد الإستعمار الفرنسي المدجج بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة،ومغادرته البلدة متجها صوب مدينة الطرفاية، حتى التحق ذراعه الأيمن أخوه الشيخ محمد الإمام (جدي للأب) الذي ” كانت له مواقف خالدة وكبيرة في ما شهدته تلك المنطقة وغيرها من مناطق سوس من ملاحم بطولية كتبت بمداد الفخر والإعتزاز” بمدينة سيدي إفني مارا ببلدتي تكنفل التي قضى بها مدة قصيرة، وبإكيسل التي قضى بها مدة أطول.
كان الإستعمار الإسباني جاثما بكلكله على المدينة وماحولها، يحصي أنفاس الساكنة عن طريق مخبريه، ويرصد حركاتهم و سكناتهم بواسطة عيونهم الخبيثة التي لاتنام، وآذانهم الجاهزة لالتقاط كل كبيرة وصغيرة.
منذ اليوم الأول، وضع الشيخ وعائلته خاصة إبنه والدي الشيخ محمد المصطفى تحت مجهر الاستعمار الاسباني البغيض.
بقي الشيخ بمدينة سيدي إفني إلى أن انبلج فجر الإستقلال، حيث كان قبل ذلك بحوالي سنة في مدينة الرباط، وقدر له أن يكون حاضرا أثناء التحاق سلطان البلاد محمد الخامس بأرض الوطن قادما من منفاه حاملا معه بشرى الإستقلال،فكان أول من بايعه من أبناء
القبائل الصحراوية المغربية، أصالة عن نفسه،ونيابة عنهم وكذلك عن قبائل آيت باعمران. عينه بعدها السلطان في أول وفد رسمي قصد أداء مناسك الحج،كما عينه عضوا في رابطة علماء المغرب،وعضوا في المجلس الاستشاري الوطني ،نيابة عن قبائل الصحراء وآيات باعمران،صحبة المرحوم الوطني علي بوعيدة.
لم يسلم الشيخ من كبرياء وتجبر المستعمر الغاشم، حتى وإن عين بأمر من الخليفة السلطاني مولاي الحسن ابن المهدي خليفة له، ورئيسا للشؤون الدينية بقبائل آيت باعمران. لقد بقي هدفا، وكذلك إبنه الشيخ محمد المصطفى،لأعين وآذان المخبرين خاصة حينما عين إماما للمسجد الكبير بالمدينة.
وطنية الشيخ أكبر وأعظم وأعمق من أن تحاصر من طرف الإستعمار وأذنابه، إخلاصه لعهود والده الشيخ ماء العينين مع السلاطين الخمسة الذين عاصرهم، وإيمانه المطلق بالسير على الطريق القويم الذي كان عليه الوالد، سهل أمامه كل وعر مستحيل.
وإن نحن استنطقنا تاريخ الشيخ الحافل بالوطنية والعطاء،والذب عن المقدسات ،فسيجيبنا بما يشفي الغليل، ويرفع الرأس عاليا بكثير من العزة والأنفة والشموخ…
أمام الوضعية التي كانت عليها المنطقة المحاصرة، وغرس الإستعمار أتباعه في كل نقطة ضوء يرى أنه يمكن أن ينبعث منها صوت الوطنية حتى وإن كان خافتا.وماكان يشكله الشيخ من خطر على الاستعمارين الفرنسي والإسباني، تناثرت أمامي أسئلة كثيرة، عنه وعن مواقفه الوطنية في ظل هذه الوضعية الحالكة السواد لم نبذل جهدا جهيدا لمعرفة الجواب، بعد رجوعي إلى مكتبتي المتواضعة،ولا تطلب منا ذلك وقتا غير يسير.
وجدت أن أول كتاب ألف. عن الصحراء المغربية وعلاقتها وساكنتها مع الوطن الأم، وبيعة أهاليها للسلاطين العلويين، ذاك الذي ألفه الشيخ محمد الإمام سنة1947بمدينة سيدي إفني(كتاب الجأش الربيط..) وبقي عنده سرا دفينا إلى أن قدمه لعاهل البلاد السلطان محمد الخامس أثناء تقديم البيعة له،حيث أمر السلطان بطبعه.
ولكن ما وقفت أمامه حائرا هي تلك الشجاعة المنقطعة النظير التي تظهر جلية من خلال رجوعنا إلى الخطب التي كان يلقيها الشيخ بالمسجد الكبير بالمدينة أثناء صلاة الجمعة والأعياد الدينية.
وجدت في بعضها مايلي:
– ….وانصر اللهم من كان فيه نصر المؤمنين ياقوي يا معين.
– اللهم انصر سيدنا ومولانا محمد.
– ….هذا وبصفتنا مسلمين مغاربة يجب علينا أن نزيد التفافا وتعضيدا ومؤازرة لأمير المؤمنين محمد الخامس أعزه الله
تعالى امتثالا لقوله تعالى:(ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم ).ولما ضحى به في سبيل شعبه
وبذله النفس والنفيس.
– اللهم انصر بنصرك العزيز صاحب المجد والتبريز سيدنا ومولانا محمد بن مولانا يوسف.
– اللهم انصر مولانا محمد، اللهم انصر الإسلام.
اللهم انصر أمير المؤمنين مولانا محمد ووفق خليفته.
أتذكر جيدا أن والدي الشيخ محمد المصطفى العضد الأيمن لوالده الشيخ كان يقول لي أن والده كلما ضاق عليه الخناق يقول في دعائه:اللهم انصر من فيه نصر المسلمين، واخذل من فيه خذلان المسلمين، ويضيف الوالد :ومن ذا الذي في نصره نصر المسلمين غير السلطان محمد الخامس،ومن ذا الذي فيه خذلان المسلمين غير الإستعمار الإسباني البغيض.
هذه صور ناطقة، وساطعة عن مواقف الشيخ محمد الإمام الوطنية التي يضن الزمان بمثلها خاصة إن نحن أضفنا إليها مواقف لا تقل أهمية عنها منها مثالا لا حصرا موقفه الخالد من عملية تجنيس سكان المدينة وماحولها.
على أن أكبر وأهم موقف يحسب للشيخ، ويعد من المواقف الوطنية الكبيرة التي لا يقدم عليها إلا العظماء الذين ترفع لهم قبعات التقدير والاحترام والإمتنان، ذلك الذي حدثني به-بحضور ثلة من أعلام الأسرة المعينية يتقدمهم الدكتور حمداتي شبيهنا،وبعض الأدباء والمثقفين-الدكتور محمد ماءالعينين سفير المملكة حاليا بالسودان.قال السفير:
كنت قنصلا للمملكة بالجزيرة الخضراء يوم طلب أحد ساكنة الجزيرة لقائي حيث تم له ماأراد وذلك باستقبالي له بمكتبي، لقد بلغ الرجل من العمر عتيا، بادرني بعد السلام قائلا: هل أنت من أسرة الشيخ ماءالعينين؟ وإن كنت كذلك فما هي علاقتك بالشيخ محمد الإمام؟ نعم أنا سليل تلك الأسرة، أما الشيخ فإنه عم والدي ووالدتي، إنشرح الرجل وبدا السرور على محياه،قال أتيت لأطلعكم على واقعة تتعلق بالشيخ كنت شاهدا عليها وطرفا رئيسيا له علاقة بها. كنت المترجم الرئيسي للجنرال فرانكو حينما يتعلق الأمر بلقائه بأحد الزعماء العرب، وبهذه الصفة استدعيت في أواسط الثلاثينيات الى قصر ELprado بمدريد حيث أخبرت أنه سيلتقي بشخصية عربية كبيرة مصحوبة بوفد ، وعلي أن اطلعهم وبكل دقة على البروتوكول الخاص بالجنرال، و أطلب منهم التقيد به حرفيا.
-إذا سمعتم الموسيقي التي تسبق حضور الجنرال عليكم بالوقوف إلى حين نهايتها.
-إذا دخل الجنرال عليكم بالوقوف والبقاء على تلك الحالة، وعدم السلام عليه أو مبادرته بالكلام إلا إذا كانت المبادرة من طرفه.كررت ذلك مرارا إلى أن تم استيعابه من طرف الوفد.
كانت مفاجأتي كبيرة حد الصدمة القاتلة،وكذلك مفاجأة الذين حضروا، وهم يعدون بالعشرات، تيقنت أن نهايتي قربت
لكوني لم أنقل بأمانة ماكلفت به، أو هكذا سيظن عني. والجميع يلاحظ عدم وقوف الشيخ عند سماعه الموسيقى، وكذلك بعد دخول الجنرال قاعة الإستقبال حيث بقي جالسا، إلا أن مفاجأتي وكذلك من حضر كانت أكبر ونحن نرى الجنرال يتجه صوب الشيخ، وهذا الأخير جالسا على مقعده دون إبداء أدنى حركة منه، سلم عليه الجنرال وبادله الشيخ التحية،انتهى سلام الجنرال عليه وترحيبه به، وأنا أترجم مايدور بينهما من عبارات التحية، بادرني الجنرال بالقول:إسأل الشيخ هل له حاجة أقضيها له؟فكان الجواب بالنفي، ألح الجنرال مرة أخرى فكان الجواب كسابقه، وبعد إلحاح الجنرال قال الشيخ إذا كان ذلك ضروريا فإنني أطلب منه العناية بالمسلمين الذين شاءت الأقدار أن يكونوا تحت حكمه وتسهيل قيامهم بشعائرهم الدينية،وثانيا القيام بزيارة قصر الحمراء.
وهكذا تم له ما أراد بتعليمات من الجنرال حيث قام بزيارة إلى قصر الحمراء رفقة الوفد المرافق له وبه أنشد إحدى أروع قصائده .
هي الوطنية الصادقة التي يستحضر صاحبها مقولة:ليس المهم الكرامة الشخصية، بل المهم كرامة الوطن وشخصيته.
كما يستحضر ماقيل من أن حراثة الأرض في الوطن، خير من عد النقود في الخارج.فسلام عليه يوم ولد و يوم مات ، ويوم يبعث حيا.
كتب : ماءالعينين ماءالعينين