شغف القراءة وبصمة الكتاب الأول

المصدر ميديا : عبد الله المتقي

لا يختلف اثنان على كون القراءة ، ليست ترفا أو تزجية للوقت ، بل شعورا بالسمو ، وفرحا غامضا يعترينا كلما قرأنا كتبا رفيعة في كلماتها ومعانيها ، فالقراءة اكتشاف لعوالم جديدة وتهذيبا للروح ، والخروج بها غياهب الظلمات الحالكة إلى عوالم مضيئة وأكثر رحابة.

بهذا المعنى ، كتب بعض الأدباء والفلاسفة عن تجربتهم مع القراءة ، مثل “هنري ميلر” و”منى اوزوف” وميلن كونديرا ومحمد شكري وآخرين .

ومساهمة منا في خلق حميمية مع الكتاب ، ، توجهنا بهذا السؤال لمجموعة من الكتاب المهووسين بالقراءة: ” أنت كقاريء أولا ، وككاتب ثانيا ، ما يمكن أن تقدمه لنا عن الكتاب الذي بصم حياتك ، وتابعت صفحاتك بوجدان مشتعل ..وماذا عن قصة اكتشافك لمتعة القراءة وعشقك لها ..؟
وكانت الإجابات كما يلي :

فادي سعد: لا بد أن يصطدم المرء بالكتب حتى يبدأ بالقراءة

كنت أتجوّل مرة في بيتنا في حلب، واكتشفتُ مكتبة والديّ. استللْتُ أحد الكتب لا على التعيين، كان لميخائيل نعيمة (“سبعون”). لا بد أن يصطدم المرء بالكتب حتى يبدأ بالقراءة. لا بد أن يفتح كتاباً بالصدفة، لتبهره جملة ما، ثم يقرّر أن يبحث عن جملة ثانية فثالثة. ويقضي حياته بعد ذلك باحثاً عن جمل يتعلّق بها، ليهجرها بعد ذلك. المهم، حتى نصطدم بالكتب، لا بد أن نتواجد في مكان ضيّق فيه الكثير من الكتب.
بهرتْني فكرة أن يسرد المرء حياته، قبل أن أُدرك لاحقاً أننا يمكن أن نفعل ذلك متستّرين خلف أقنعة وحِيل كثيرة. الموضوع برمته لعبة. القراءة هي التفرّج على اللعبة. الكتابة هي المشاركة فيها.
***
أعتقد أن الكتب التي نقرأها في البداية لا بدّ أن تكون ممتعة حتى نستمر في القراءة.ثم تأتي العادة، والإدمان. ليس من السهل التوقف بعد ذلك. مهما حاول المرء، لا يمكن استعادة النشوة سوى بجرعات متزايدة من القراءة.
ليس هذا فقط، بل مع هذه النشوة، هذا الغياب المؤقت عن العالم المادي، تتفتّح بالقراءة عينٌ ثالثة. عينٌ تبقى مسدودة عند كثيرين، وفي أفضل الأحوال لا يعلمون بوجودها. العين التي تتنقل عند القارئ بين رؤية العوالم الخارجية البعيدة، ورؤية الذات. القراءة فعل اكتشاف مخيف، قد يودي بالمرء إلى الجنون.

وجدتُ في مكتبة والديّ روايات كازانتزاكس. عندما قرأتُ رواية “زوربا”، أردتُ أن أصبح زوربا، أن أعيش كزوربا، أن أقلّده.أدركتُ لاحقاً أنه لن يمكنني فعل ذلكمن دون الاستمرار في القراءة. هكذا فهمتُ ما أراد أن يوحي به كازنتزاكس. زوربا يكمّل شخصية “الرئيس” أو العكس. لا يمكن تصوّر أحدهما دون الآخر. حتى الأشياء الهامة التي قد يكون قالها زوربا، ليس لها معنى إذا لم تكن مُدوَّنة في كتاب. الخوض في تجارب الحياة وحده لا يكفي. لا يمكن أن تكون “مجنوناً” أو “حكيماً” من دون أن تحاول فهم العالم. والكتب يمكن أن تعين على ذلك.
***
ثم تأتي القفزة التي ينتقل بها البعض من مجرّد القراءة إلى الكتابة. الكاتب هو قارئ قرّر أخيراً أن يكتب سيرة ما لحياته. أن يتصدّى بطريقته للنسيان. الكاتب هو قارئ يتخيّل رواية هو شخصيتها الرئيسية. كان يمكن أن يقتصر الأمر على هذا، على التخيّل فقط. لكنّ القارئ الذي يتحول إلى كاتب، هو ذاك الذي يقرّر لسبب ما التخلّي عن متعة القراءة والتخيّل فقط، والخوض في مشقة تدوين سيرته.تدوين تلك التفاصيل التي يمكن بسهولة أن تُنسَى. الكتابة هي محاولة للتذكّر. الكتابة مضادّة للموت. أو هكذا يتوهمّها ذلك القارئ الذي لم يكن يدرك، لحظة أمسك بكتاب مُهمَل، أنه دخل من باب إلى طريق لا نهاية له.
استبرق أحمد : تأتي القراءة كصرخة الإله للإنسان، مزلزلة و كاوية للثوابت

حالات القراءة
وبدورها قالت استبرق أحمد في مقاربة القراءةيحدث الانفجار الطيب، يتفكك عالمك موقنا باتساع رحلة تشظيه، لا مجال إلا لإشارات نزيف التجديد، بعد اختراق رصاصة اليقظة كائن البلادة لديك. القراءة لها حالات، ففي الحالة التي ذكرناها تأتي القراءة كصرخة الإله للإنسان، مزلزلة و كاوية للثوابت، لكنها أيضا قد تظهر كشجرة نائية تدل اليابسة للمزيد من الغابات، ويداهمك المطر، يبلبل كاللانهائي بها، لكنك تظل حذرا تمشي بالغابات، تتمسك بالجاذبية السخية، أنت في “المابين”، لم تغتسل كليا بمطر لحون القراءة كاملا،لم تتخلى عن مايكبل تحليقك كرائد فضاء يستنطق الأكوان من حوله، هناك حدود لديك،لاتسمح للقراءة بعبورها أو تخطيها عميقا، هناك جفاء لحقائق دون أخرى، لكنك تظل قاريء أفضل بكثير من قاريءلا يوقن بأنها حالة استثنائية، متعنت للمعتاد، متشبث ببراهينه، يظن القراءة خلقت لتؤكد حقائقه دون غيره، مجال لتقبل المختلف.
كيف بدأت رحلتي القرائية؟
وذكرت استبرق :”كنت أكثر الأبناء اقترابا و تنافسا على قراءة مايجلبه من، في عادة دائمة بعد عودة من العمل، أستولي أولاعلى المجلات المناسبة لأعمارنا الصغيرة، فمع مجلة”ماجدا لإماراتية، “سعد” الكويتية، مجلدات” الرجل الوطواط”، “سوبرمان”، “برق”،” طرزان”، وغيرها من مجلدات كانت البداية للمتعة، للاهتمام، كبرنا فأتت كتب أجاثا كريستي المشوقة التي كانت أول دهشتي بها عبر “مقتل السيد أكرويد”، لأتابعها محتفظة بما مايزيد عن ال 70 رواية، في حرص حاضر كان والدي ووالدتي يأخذوننا إلىإحتفالية”معرض الكتاب” السنوية، نأخذ من المكتبات غلتنا بالاختيار الحر، لنقارب الينابيع و يأتي التنوع ، و ربما أبرز ما أتذكره أيضاكتاب”ألف ليلة و ليلة” المذهلة وكتب أبي في مكتبة أعدمها الإهمال بعد وفاته، التي تشتمل على روايات متناهية الرومانسية لإحسان عبد القدوس و عبدالحليم محمد عبدالله، برائحة أغلفة تنبعث منها جماليات رسم “جمال قطب”، لكنها كتب ربما لم تمس إلا مراهقتي. لاحقا تنوعت قراءاتي أكثر و مضيت للقراءة المحترفة دون تحديد لكتاب وحيد،فأغلب الكتب استوقفتني بتجلياتها، واخذتني لمحاولات الكتابة التي قاربت الشعر أولا ثم حادت و رست في السرد و القصص و النصوص المفتوحة.

الطاهر لكنيزي: رواية “الحظ الثاني” لفيرجيل أشعرني بهشاشة الحياة

من جهته اعتبر القراءة صمّام أمان لكل مثقف إن لم نقل لكل متعلّم؛ تذكرة سفر على متن مركبة الخيال إلى عوالم، وأفضية يمشي القارئ في مناكبها ويجوس خلال ديارها، ويتعرف على لغاتها، وعاداتها، وتقاليدها دون أن تطأها قدماه؛ هي محطات الشحن التي يتزوّد فيها خزّان الذاكرة بمعجم لغوي ثرّ، وتنهل منها خيول المخيلة الوقود الذي يمنحها القوة لارتياد عوالم الخيال. إنّ كلّ عملية إفراغ لا تتم إلا بعد الشحن طبعا، والكتب هي الروافد التي يتغذّى منها روح القارئ، ويجترح منها ما يسعفه في التعبير، إن لم نقل بمهارة، فعلى الأقل بصدق، عما يعتمل بداخله. فلكل رافد طعم، ولون خاص به، بيد أنها تنصهر في وعي القارئ، أو حتى في لاوعيه، وتنعكس على سلوكه دون أن يستطيع الجزم فيمن كان له الأثر الحاسم. إن من يطلب من قارئ اسم الكتاب الذي ترك شيئا ما في حياته كمن يطلب من أب أن يُفاضل بين أبنائه. لكنّي أستطيع القول إن الكتاب الذي خلخل بعضَ الحقائق التي ارتكنتُ إليها، وسما بروحي، وبثّ فيها مشاعر نبيلة، وحسّ الإنسان ( الإنسان)، وأشعرني بهشاشة الحياة، هو رواية: الحظ الثاني لكاتبها الروماني: كونسطانتان فيرجيل جيورجيو. وأنا أقرؤها، كنت أعيش بكامل حواسي، حتى السادسة منها، كل فصولها المأساوية. لقد كان لهذا المؤَلَّف تأثير بالغ في نفسي، وانعكس على بعض تصرفاتي، إذ علّمني ما لم يعلّمه لي والداي والمدرسة. هو الكتاب الوحيد الذي بعد أن قرأته في شبابي، أعدت قراءته عدّة مرات في سنّ النضج، وما زلت أحنّ إلى بعض فصوله، فأعيد قراءتها بنفَس متجدّد. . وأضاف لكنيزي

نجيبة همامي : القراءة حال مزمنة عندي وليست فعلا أقوم به من حين لآخر

في حين تقول القاصة التونسية نجيبة همامي” أعتبر نفسي قارئة نهمة بل وجيّدة قبل أن أكون كاتبة. وحسب رأيي قد يصير القارئ كاتبا يوما لكن لا يمكن للكاتب إلا أن يكون قارئا دوما.
القراءة حال مزمنة عندي وليست فعلا أقوم به من حين لآخر، لازمتني منذ بدأت أعرف تهجئة الحرف. وفي تلك المرحلة الأولى كانت ترفا لديّ وتزجية وقت بحكم انتمائي إلى فضاء ريفي لا توجد فيه وسائل الترفيه ولا تعتبر من المستلزمات الحياتية كالآن. ولكن مع ذلك الترف كنت أشعر، بصورة لاواعية، بغبطة عميقة وانجذاب لما أقرأ من قصص لا أتركها حتى أنهيها سريعا، فأشعر بالندم لذلك إذ علي أن أبحث عما سأقرأ بعدها. ”
ثم تضيف :”ومنذ زمن الاختلاس “الأدبي” الطفولي ذاك، التصق بذاكرتي عنوان كتاب وغلافه هو “القاهرة الجديدة”، ولكن الأهم منه كتاب منزوع الغلاف وبعض الأوراق وطباعته ليست ككتب القراءة المدرسية، أُعجبت به كثيرا بل يمكنني أن أقول إنني أحببته فأبطاله يحملون أسماء أعرفها ويذكر أماكن وأحداثا قريبة مني. لم أسأل عنه خشية أن ينتزع مني بتهمة أني أقرأ ما يتجاوز مداركي “العُمُريّة”. وانتظرت سنوات طويلة جدا حتى أعرف أن ذلك الكتاب هو الرواية التاريخية “برق الليل” للروائي التونسي البشير خريّف وأتعرف من خلاله على رواية “الدقلة في عراجينها” لنفس الكاتب.
شيء مشابه حدث مع رواية “اسم الوردة” للكاتب الإيطالي امبرتو ايكو الذي اكتشفته منذ سنوات. تلك الرواية التي قرأ فيها صاحبها السابق واستشرف اللاحق حيث كانت أحداثها الدامية تدور حول سعي الكنيسة (سلطة دينية) إلى توطين الخوف ومنع المعرفة (حجب كتاب “الشعر” لأرسطو) ولو بالقتل والحرق. ”

طاهر الزارعي : ثمة كتب تركت بصمة في حياتي التي أحبها كثيرا

يقول القاص السعودي :” حسب قول الكاتب الإنجليزي فرانسيس بيكون :” إن القراءة تصنع إنسانا كاملا , والكتابة تصنع إنسانا دقيقا ” أنطلق من هذا القول مؤكدا على دور القراءة في بناء الوعي الثقافي لدى العقلية الفردية والجماعية, على اعتبار أن القراءة فعل ثقافي وفلسفي وأدبي .. يسعى لبناء الذاكرة الثقافية بوصفها رصيدا تراكميا يحدد القيمة الإنسانية للمثقف . ”
إن قصة اكتشاف القراءة لدي كمن يكتشف حالة من الفرح كان غائبا عنها .. حضرت في ذهني منذ ولادتها فكانت ذاكرة تغذي العقل , وتنهض بمفاهيم كثيرة لدي حتى أصبحت غذاء روحيا وفكريا أتناوله كل يوم .القراءة فرضت نفسها كل يوم كسُلطة تمارس قوانينها وطقوسها الخاصة , لكن هذه السلطة لاتلبث وأن تتحول إلى ياسمين وكوب قهوة أرتشفه كما أرتشف أحرف رواية أو كتاب آخر .إنها قصة انصياع نحو الحب والسلام .. نحو الجمال …
ويبدو أن هناك ثمة كتب تركت بصمة في حياتي التي أحبها كثيرا فكتاب يكتبه ساراماغو أو ميلان كونديرا أو محمد الماغوط أو سليم بركات فثق أنني فوق غيمة تنتظر الهطول , أشعر بأنني نموذج حي للحياة لأنني سأنهض من وعي إلى وعي آخر يكاد أكثر شمولية في المفهوم . إنها متعة القراءة التي يغفل عنها كثير من الأفراد وكثير من المجتمعات التي تبحث عن ذاتها وتحاول أن تعيش , على الرغم من أن العيش في هذه الحياة يتطلب منا أن نكون أكثر تلقيا لكنوز القراءة , فالقراءة تبرهن على القيمة الثقافية التي نمتلكها .

جاكلين سلام: لم يكن في بيت أبي أي كتاب على الإطلاق

كنت طفلة حين بدأت ارتياد مكتبة المركز الثقافي في المالكية، مدينتي التي عشت فيها حتى مرحلة ما قبل الجامعة. ومن هناك بدأت السفر عبر كلمات الكتاب إلى عوالم الدهشة والمتعة والغرابة. لم يكن في بيت أبي أي كتاب على الإطلاق. نداء ما أخذني إلى كتب الأطفال المترجمة عن اللغات
العالمية ، وهناك عقدت صداقات مع حيوانات الغابة المرسومة في القصص الملونة، وعرجت على الأدب العالمي المترجم والأدب اذكر:غادة السمان، حنا مينا، نوال السعداوي، إدوارد الخراط…
كان جاذباً ومثيراً الأدب الرومانسي العربي والعالمي، ثم مرحلة أدب الواقعية الاشتراكية وغيرها القادمة من الاتحاد السوفياتي السابق ،…تلاه أدب امريكا اللاتينية، بالإضافة الى ترجمات عن الانكليزية والفرنسية في الأدب والفلسفة ، لا يمكن لكتاب واحد أن يعيد تشكيل ذهني وروحي، لكنني في بداية المرحلة الجامعية تعثرت بكتابين مهمين وقرأتهما بعناية وكتاب بعنوان “مغامرة العقل الأولى” للباحث السوري فراس السواح، المختص في تأريخ الأديان والأساطير. هذه الكتب عثرنا عليها في مركونة ليلاً في شارع من شوارع مدينة حلب السورية..
في المرحلة الحالية أميل إلى قراءة كتب ذات طابع روحاني وصوفي ويأخذ الأدب الكندي شعرا ورواية بعض الاهتمام، أذكر: مارغريت أتوود، اليس مونرو.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد