سكر سري

في الجناح القديم بالحي الجامعي أغدال كانت تسكن الغالية وصديقتيها حبيبة وسارة. كن طالبات في كلية الآداب بالرباط شعبة الفلسفة تخصص علم نفس. كانت الغالية أجرأهن هي التي تناقش الطلبة المتسيسين وتحضر حلقيات النقاش. لم تكن تنتمي إلى تيار معين لأنها لاتثق في أحد. الأحزاب بالنسبة لها تورطت كثيرا في لعبة المخزن تحت ذرائع السلم الإجتماعي والوحدة الوطنية أما بقايا اليسار فهي لاتعدو حماسة شباب وبقايا يوتوبيا المجتمع اللاطبقي. ثم إن مناضليه بمجرد مايتخرجون ويعملون يلتحقون بالأحزاب التي كانوا يعادونها.

كانت الغالية تشرح الأمور السياسية لصديقتيها اللتان لاتهتمان إلا بفرويد وباللاوعي. كانت حبيبة تقول أن لاوعي المغاربة مملوء بالفوارق وبالطبقية ولن يتغيروا إلا بعد تحليل نفساني جماعي مكثف أما سارة فقد كانت تعلن مساندتها لمجتمع الفوارق وتتمنى أن تنهي ديبلومها على خير وتفتح عيادة للعلاج النفسي تدر عليها ربحا معقولا. كانت تقول أن أمراض المغاربة لايقدر عليها طبيب وأن المطلوب هو إعادة برمجة المغاربة من الأساس لكي يتناسبوا وتطورات العصر في العالم.

كن دائما مختلفات في الرأي طيلة الاسبوع. يتحدن يوم السبت وبالضبط مساء يوم السبت، موعد السكرة الأسبوعية. كن يشربن كل ليلة سبت. انتباذ النساء في المغرب ليس عملية سهلة فهي تتطلب لوجيستيك معقدة. أولا يلزم رجل ليشتري الخمر في البيسري. لاتريد الصديقات الثلاث أن تعرضن انفسهن لوقاحة الزبناء. يشتري لهن صديق زجاجتي نبيذ وبعدها يعهدن إلى الغالية بمهمة إخفاء المفتاح. يلزم إخفاء المفتاح لكي لايخرجن وهن سكرانات. إخفاء المفتاح كان هو الحل لكي لايتعرضن لمحضر سكر علني وطرد مؤكد من الحي الجامعي الذي نلنه بعد سنتين من السكن في الحي الجامعي مولاي إسماعيل. لم تكنن مستعدات لخسران مكانهن في الحي الأنيق أغدال.

تبدأ السهرة في الغرفة 254 بوصلة غناء الشيخ إمام حسب رغبة الغالية التي تقول أن الشيخ يبعث بداخلها رغبة في الحرية، في الإنطلاق وفي رجم المجتمع الطبقي، الذكوري العبودي. تشرب لكي تلعن قيود ذلك المجتمع. المجتمع الذي يفرض على بنات أن ينتبذن في السر يعني ماذا سيحدث إن شربن في العلانية؟ سيهتز عرش الرحمان؟ يعني الرحمان يترك شؤون الخلق والكواكب والمجرات ليراقب ثلاث فتيات في حي أغدال يشربن قارورة نبيذ لكي يسترخين قليلا من ضغط الدراسة والحياة.

لم تكن الصديقات من نوع البنات اللواتي يخرجن ويركبن السيارات التي تصطف أمام الحي. كن يعتبرن تلك الأفعال دعارة صريحة. لم يكن من النوع الذي يريد السهرات في أماكن الرقص في أغدال وغيره. متعتهن هي أن يشربن كاسا ويتناقشن في أمور السياسة واللاوعي الفردي والجماعي.

بعد الشيخ إمام تبدأ الوصلة الطربية بأم كلثوم. كانت حبيبة تهيم حبا بأم كلثوم وخاصة بأغنية ” حب إيه” التي تمثل الرجال العرب البعيدين عن الحب والذي لايطالونه حتى في الخيال.

كانت تعتبر أن لارجل يستحق الحب . هناك سوء تفاهم وجودي بين النساء والرجال، النساء يسعين إلى الحب الأثيري، إلى صدق المشاعر فيما الرجال تقودهم الحواس وعضوهم التناسلي لهذا فالنساء والرجال لا يلتقيان وحين يلتقيان يعيشان الإشتعال وبعده التعاسة. كانت سارة تختلف مع حبيبة وترى أن الرجال يعرفون الحب والنساء كذلك لكن المجتمع يكبلهم بضرورة تشكيل أسرة والإنجاب وهكذا يطير الحب ويستقر الواقع السمج. طبيعة المجتمع هي التي تفسد الحب وليس هوية الرجل أو المرأة.

تتواصل السهرة بعبد الحليم، الملاك بالنسبة لسارة والذي مثل المراهقين والمراهقات في جموحهم وميلهم إلى التوباوية والأحلام الكبيرة.

كانت السهرة تتواصل على اإقاع الغناء والنقاش وبعدها تنام البنات. في ليلة سهرن حتى الصباح وكن سكرانات بعد أن شربن أكثر من العادة. طلبت حليمة من الغالية ان تفتح لها الباب لتذهب إلى المرحاض لكن هاته الأخيرة نسيت أين وضعت المفتاح. فتشت في كل مكان في الغرفة، تحت الوسائد وفي الدولاب بدون فائدة.

بقيت البنات حبيسات الغرفة ليوم كامل وبعدها تخلين عن السكر السري وصرن يذهبن لحانات أغدال حيث يقابلن رجالا ويركبن سيارات فاخرة دون أن يعتبرن ذلك دعارة صريحة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد