تسول المسنين..ما بين الحاجة وقسوة الحياة

يكاد لا يخلو شارع أو مواصلة أو محطة وقود أو غيرها من الأماكن العامة من العجزة المتسولين، قد تكون الحاجة دفعتهم إلى مد اليد وقد يكون الكسب السهل يبخر ماء وجه آواخر العمر. “المصدر ميديا” تجولت في شوارع البيضاء باحثة عن السبب الذي يدفع شخص مسن للتسول. فكانت هذه الحكايات.

تسول المسنين..ما بين الحاجة وقسوة الحياة لا يعد للعمر قيمة

لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من ظاهرة التسول، لكن ما يحزن هو رؤية رجل مسن يطلب استعطاف الناس لمساعدته بنبرة صوت مكسورة وبداخلها حزن السنين، أو امرأة عجوز كسرت عزة نفسها بعد أن أفنت حياتها في تربية أبنائها لترى فيهم حلمها لكن بعد كبرهم يتركونها في حالة سيئة بدون معين فلا تجد ملجأ سوى الشارع تمد يدها لطلب المساعدة. هذه المشاهد وغيرها نراها بشكل يومي تتخذ من التسول قوتها بعد أن ظلمهم أهلهم وأدار لهم الناس ظهورهم. فهل يمكن أن نسمي هذا تسولا؟ ولماذا أصبحنا نتجاهل هذه المشاهد المؤسفة التي تعكس ما وصلنا إليه من قطع أواصر الرحم والحس الإنساني؟

التسول منفذي الوحيد.

“مي عايشة” سيدة شارفت على عقدها السابع، بعد أن ضاقت بها الدنيا لم تجد منفذ سوى التسول تقول”لم يرزقنا الله أنا وزوجي بأولاد، وبعد عجزه عن العمل ومرضه جئت من نواحي آسفي لأقيم رفقة أختي الأرملة وأبنائها، لم أجد أي مصدر لسد تكاليف أدوية زوجي سوى مد يدي فالله غالب “اليد قصيرة والعين بصيرة”.

وتقسم “مي عايشة” أن قدرها هكذا ولا اعتراض على حكمه ولكن لو وجدت من يسد حاجة زوجها فقط فلن تمد يدها ثانية.

ابني طردني
أما “رقية” سيدة بسيطة جدا، تجلس تحت أعمدة الإنارة تستجدي المارة ثمن علبة مناديل ورقية، ولو أردت أن تساعدها ببضع دريهمات ترد عليك أنها تريد البيع والشراء لا الصدقة والإحسان.

هي أم هانت على ابنها العاق الذي تكبدت مشقة حمله ثم كابدت وتحايلت على الحياة وامتهنت حرفا كثيرة تتنافى وآدميتها لأجل تربيته وتوفير متطلبات حياته..تروي لنا حكايتها والدموع تملأ عينيها وتقول “هل هذا هو الجزاء والعرفان لمن قيل بحقها أن الجنة تحت قدميها؟ وكيف لابن أن يتجرد من مشاعر الرحمة والإنسانية ويطرد أمه وينسى عذاب السنين فقط لإرضاء زوجته لأني من وجهة نظرها أصبحت ضيفة ثقيلة عليهما؟..تضيف”بعد أن ضاقت بي الأحوال وحاصرتني الدنيا من كل حذب وصوب ولم تعد تقوى صحتي على العمل ولا عزة نفسي على التسول، لم أجد من معين سوى أهل الإحسان ممن يشترون لي علب المناديل وبعض الأشياء البسيطة لأبيعها وأتدبر أموري منها..هذه حكايتي باختصار، أحمد الله على كل شيء ولكن لهلا يحوجك لشي حد أبنتي”.

الإعاقة ترغمك على مد اليد

وغير بعيد عن السيدة رقية، تقف خدوج وهي سيدة في الستين من عمرها رفقة زوجها الذي يلتزم كرسيه المتحرك بسبب حادثة سير مروعة، تستعطف المارة وتمد يدها عوضا عن زوجها الذي منعته إعاقته من مد يده وخانه لسانه كما قدماه. تقول”الوقت صعيبة وبدالة، ولا أستطيع توفير ولو القليل من حاجياته أو تغطية مصاريفه الطبية، وإذ لم أمد يدي فماذا أفعل؟..فنحن نعيش فقط على الإحسان ومساعدات أصحاب القلوب الرحيمة..لنا الله جميعا”.

ظروف صعبة

أما الحاج أحمد فحكى لنا بحسرة قصته فقال”أقف عادة عند إحدى إشارات المرور في أحد التقاطعات، وذلك لجمع مبلغ من المال لأعين أسرتي على مواجهة ظروف الحياة الصعبة والقاسية والأهم لتغطية مصاريق علاج ابني الوحيد المريض نفسيا”..

ما بين الصدق وإدعائه..للشارع آراء متضاربة

يقول محمد سعد الكاتب والدكتور في وسائل الإعلام والاتصال “أعتقد أن السبب الرئيسي لمعظم مشاكلنا وعاداتنا السيئة التي تحدث الآن هي قطع صلة الرحم..وظاهرة التسول هذه ليست جديدة بل قديمة وسادت لفترة طويلة ولكنها كانت محدودة ومحصورة في شرائح معينة من المجتمع، وزادت في الآونة الأخيرة كما تعددت وتطورت أساليبها؛ ولكن في العموم ترجع الزيادة في حجم ظاهرة التسول إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، كما قادت التطورات الإقليمية والعالمية إلى تغيير في أساليب التسول، فهناك التسول الاحترافي والاضطراري والموسمي وغيرها من أنواع التسول .

ولكن ظاهرة تسول المسنين ظاهرة تجرح مشاعرنا جميعا..خاصة وأن عدد المسنين قد ارتفع في الآونة الأخيرة..ومنهم بالفعل من يحتاج إلى التسول، خاصة بعد أن كبر في السن ولا يستطيع العمل أو بذل أي مجهود، وفي نفس الوقت لديه مسؤوليات ومصاريف اتجاه عائلته، فلا يجد أمامه فرصة إلا الاتجاه إلى هذه الظاهرة “..يضيف” ولكن لو عدنا إلى صلة الرحم، وبحث كل منا عن عائلته وأرحامه، وقام كل منا بإخراج زكاته لأهله خاصة وأن (الأقربون أولى بالمعروف) لقضينا على هذه الظاهرة بشكل كبير..وسيبقى فقط من اتخذها حرفة وتعود عليها ..وهنا يجب أن نسأل : من ينقذ فقراء المسنين من التشرد ..والإجابة : علينا مسؤولية كبيرة نحو المسنين بشكل عام .. وأهلنا بشكل خاص .. والبحث عنهم والتعرف على مشاكلهم واحتياجاتهم “.

أما سلوى فتقول”أنا عن نفسي أصبحت لا أثق في الكثير من المتسولين، ولا أتصدق إلا على من ظهرت إعاقته، فهناك من يمتهن التسول ويبتز مشاعرك بالاستعانة بالأطفال أو كبار السن ليضغط عليك لمساعدته”.

فيما يرى عبد الرحمان أن كل شخص يحساب على نيته ويقول”لسنا مطالبين بتقصي حقيقة كل متسول، لأن من يتصدق يرجوا الثواب فقط، لذا لا يهم كذب المتسول من صدقه، كما لا أتصور أن من يمد يده سوى المحتاج”.

تتعدد الحكايات والحقيقة واحدة نستخلصها أن هناك مسنين انكسرت عزة نفسهم ووجدوا أنفسهم مشردين ومجبرين على مد أيديهم بسبب ابن جاحد أو زمن قاهر غادر. فكيف لنا أن نقسوا عليهم أكثر؟ وأين هو الإحسان وصلة الرحم؟ والله عز وجل قرن عبادته ببر الوالدين والإحسان إليهما في قوله تعالى “وقضى ربك ألا تعبدوا وإياه وبالوالدين إحسانا”. ولا ننسى أن الحياة دائرة وفي يوم من الممكن أن نصبح مكانهم..

رأي علم الاجتماع

يوسف معضور: لابد من الاشتغال على خطط استباقية لحفظ كرامة المسن

وأشار “يوسف معضور” كاتب متخصص في القضايا الاجتماعية “لابد من حديث عن التسول كظاهرة اجتماعية لها أسباب ودوافع بروز مرتبطة بظواهر اجتماعية أخرى و على أنها لا تعتبر حديثة الظهور في المجتمع، بل ممتدة عبر عقود من الزمن، وهي لا تقتصر على الدول الفقيرة فقط بل تمس حتى المتقدمة منها”.
وأضاف “الظاهرة تتقوى أكثر عند توفر مجموعة من الظروف والمعطيات أذكر منها تفشي الفقر والهشاشة الاجتماعية، حيث يضطر الفرد إلى البحث عن طرق بديلة لضمان بقائه واستمراره على قيد الحياة و ليمتهن التسول كطريقة سهلة لا تتطلب مستوى تعليمي معين أو شهادة تأهيل، مستغلا بذلك التمثلات الدينية السائدة في المجتمع وانتشار مفهوم الصدقة و الخير والجانب الاحساني، و أيضا استغلال الجانب الإنساني من طرف المتسول بتوظيفه لإعاقة جسدية أو أطفال رضع في العملية”.

كما يرى “معضور” أنه يمكن الحديث عن التسول كحرفة، عرفت تطورات عديدة في أشكالها وتم إبداع مجموعة من الطرق والوسائل والتقنيات تواكب تطور المجتمع الذي يعيش العديد من التحولات الاقتصادية و الاجتماعية وبالتالي لابد من مواكبة الشخص المتسول لهذه التحولات بهدف تحصيل قدر معين من المال أو أشياء عينية كالملابس والمأكولات وغيرها، ويمكن الإشارة إلى ما أسميه شخصيا بـالتسوّل ” الذكي ” نسبة إلى الذكاء الذي يُوظف من طرف محترفيه لكسب عطف الناس تجاههم.

ويضيف “يلاحظ كثيرا امتهان التسول من طرف الأشخاص المسنين في منظر لافت للانتباه ما يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة المقلقة حول فئة اجتماعية من المفترض أن تتمتع بظروف عيش كريمة بعدما أفنت حياتها في الكد و العمل من أجل بناء الوطن والأجيال اللاحقة، وهنا يُطرح السؤال حول مصير الجيل الحالي، ومدى خطورة الخلل الحاصل في العلاقات الاجتماعية ودرجات قوة الروابط التي تجمع الأبناء بآبائهم و إعالتهم في مراحل متقدمة ما يتطلبه من رعاية خاصة والاهتمام بهم أكثر نظرا، تفاديا لخروجهم إلى الشارع ومد أياديهم للمارة في مشاهد صادمة في كثير من الأحيان”.

ويشدد “معضور” على ضرورة الاشتغال على خطط استباقية تضمن حفظ كرامة الشخص المسن الذي يُرمى به على قارعة المجتمع كأداة منتهية الصلاحية بعدما ساهم في بناء لبناته باختلاف موقعه و طبيعة مساهمته، لتطمئّن على الأقل الأجيال الحالية لمصيرها مستقبلا.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد