تاريخ الكذب…

بقلم:فؤادالجشي

قبل أيام، قرأت كتاب “تاريخ الكذب” للفيلسوف جاك دريدا، وهو عنوان يثير التساؤل: هل للكذب تاريخ؟
قبل قراءته، استعدت ذكرياتي وتأملت في المرات التي كذبت فيها، ولماذا فعلت ذلك، وما إذا كان للكذب دور في حياتنا. تساءلت أيضًا: هل الخوف مرتبط بالكذب؟ وما تأثير المجتمع على هذا السلوك؟ هذه التأملات أعادتني إلى جدلية الثواب والعقاب، الجنة والنار، ومدى ارتباط الوعي والضمير بمستوى معيّن من الإدراك الذاتي.
في طفولتي كان العقاب الجسدي جزءًا من التربية، يُنظر إليه كوسيلة أخلاقية لإعادة التوازن للفرد داخل المجتمع، رغم ما يتركه من ندوب نفسية. لم يكن هذا مبررًا بقدر ما كان انعكاسًا لثقافة زمنية معينة.
عندما كنت في العاشرة وجدت ورقة نقدية من فئة الخمسين ريالًا في سوق الخميس الشعبي. غمرتني فرحة غامرة وشعرت أنني محظوظ وذكي. أخفيت المبلغ في جيبي وعدت إلى المنزل منتشيًا. لكن مع سماعي نداء “الله أكبر”، بدأت التساؤلات تساورني: هل أخبر والدي؟ هل أحتفظ بالمال؟
انتابني شعور بالخوف، لكنّ صوت الضمير كان أقوى. أخبرت والدي، فابتسم وأخذ الورقة النقدية بصمت. بعد يومين، طلب مني القسم على المصحف بأنني لم أسرقها، وحين حلفت بصدق، أعاد لي المبلغ. شعرت بسعادة غامرة، فقد كان هذا أول مبلغ أمتلكه. لاحقًا، تساءلت: هل اعترفت لأنني أردت المال؟ أم كان الخوف والضمير وراء ذلك؟
يُفرّق دريدا في كتابه بين الكذب والخطأ. يمكن للمرء أن يخطئ دون أن يكون هدفه الخداع، وهو ما يرتبط بمفهوم “البسودولوجيا”، الذي يشمل الزور والخداع، لكنه يمتدّ أيضًا ليشمل التدليس وحتى الإبداع الشعري. من الصعب تصور تاريخ للكذب، فمن يستطيع أن يروي تاريخه دون أن يتورط في تناقضات الحقيقة؟
يوضح دريدا كيف تغيّرت نظرتنا للكذب عبر العصور، وفقًا للسياقات الثقافية والاجتماعية.
يرى المؤلف أنّ الكذب ليس مجرد نقيض للحقيقة، بل هو مفهوم معقد يتداخل مع القصدية والنية. كما أنّ السرديات الكبرى، كالعلم والتاريخ، لطالما وُوجهت بتهمة الكذب. من خلال التفكيك، يكشف المؤلف التناقضات التي تحكم مفهوم الكذب، مشيرًا إلى أنه ليس دائمًا سلبيًا، بل قد يكون له أدوار اجتماعية وسياسية، علينا أن نعيد التفكير في مفهوم الكذب، وأن نتوسع في فهمه بعيدًا عن الثنائية التي تحصره في إطار ضيق بين الحقيقة والكذب، قد يكون الكذب وسيلة للبقاء، أو أداة للتكيف مع مواقف معقدة، أو حتى شكلاً من أشكال الإبداع الأدبي. فالكذب أحيانًا ضرورة اجتماعية، وأحيانًا إستراتيجية نفسية لحماية الذات.
التفكير في الكذب يعيدنا إلى سؤال أعمق: هل نحن نبحث عن الحقيقة حقًا، أم أننا نحتاج إلى وَهْمٍ معيّن يجعل الحياة أكثر احتمالًا؟ هل الكذب بحدّ ذاته جزء من طبيعتنا البشرية التي تسعى لصياغة واقع يناسب احتياجاتنا؟ ربما يكمن الحل في فهم الكذب لا باعتباره مجرّد خطأ، بل كحالة إنسانية تتجلى بطرق مختلفة وفقًا للزمان والمكان.
الكذب مرتبط بقدرتنا على إدراك تعقيداته. في بعض الأحيان، يكون الصدق مكلفًا، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل حتى على المستوى الاجتماعي والسياسي. يُذكّرنا التاريخ بأمثلة لقادة وسياسيين استخدموا الكذب لأغراض إستراتيجية، سواء لكسب الحروب أو تهدئة الشعوب أو حتى تبرير قرارات مصيرية. فهل يكون الكذب في هذه الحالات ضرورة أم خداعًا ممنهجًا؟
على مرّ العصور كان الكذب جزءًا من الحكايات والأساطير التي شكلت وعي الإنسان منذ القدم. أليس الروائي، بطريقة ما، يكذب حين يبتكر شخصيات وأحداثًا لم تكن في الواقع؟ ورغم ذلك، فإننا نجد في هذه الأكاذيب الأدبية حقائق أعمق عن الحياة والإنسان. ربما لهذا السبب قال الفيلسوف نيتشة: “نحن نملك الفنّ كي لا تقتلنا الحقيقة”.
من الممكن أن نفكر في الكذب كوسيلة للتخفيف من الألم. أحيانًا، يكذب الناس بدافع الحب أو لحماية مشاعر الآخرين. مثال ذلك الكذبات البيضاء التي نقولها لأحبائنا لتجنب جرح مشاعرهم، فهل هذا الكذب غير أخلاقي؟ أم أنه ينبع من تعاطف إنساني؟ كيف تختلف النظرة إلى الكذب من مجتمع لآخر. في بعض الثقافات، يُنظر إلى الكذب كأمر مستهجن للغاية، بينما في مجتمعات أخرى، قد يكون جزءًا من اللباقة الاجتماعية أو حتى مهارة تفاوضية.
تظلّ الحقيقة ذات طابع نسبي، حيث إنّها تعتمد على زاوية النظر التي نتبناها، الهدف هو تحقيق وعي أعمق بالكذب وفهم دوافعه وآثاره، بدلًا من السعي إلى استئصاله تمامًا. كما أنّ التمييز بين الكذب الضار والكذب الحميد قد يكون مفتاحًا لفهم أفضل لهذا السلوك الإنساني المعقد.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد