بعد أن كانت منارة ساطعة تجمع الأفراد من كل الفئات العمرية لمشاهدة أحدث الأفلام ومناقشتها بعد نهاية العرض، أضحت القاعات السينمائية المغربية اليوم ملاذا للسكارى والكلاب الضالة نتيجة مجموعة من العوامل التي ساهمت في الموت البطيء لهذا الصرح الثقافي، وكأن القاعة السينمائية لم تكن أبدا في وقت من الأوقات مدرسة لتبادل الخبرات والتعرف على مختلف الثقافات.
في السنوات الأخيرة تغير كل شيء وتنكر جل الناس لفضائل القاعات المظلمة وما لعبته من دور مهم في حياتهم، حيث أصبحت في وضع جد مزري بعد اجتياح الأجهزة الإلكترونية المتطورة التي كان بالإمكان أن تستغل بالشكل الإيجابي للتطوير و الرقي بخدمات القاعة السينمائية لا للقضاء عليها كليا.
أفول زمن القاعات السينمائية وحلول زمن العولمة
تنكر عدد من أوفياء القاعات المظلمة في زمن الازدهار أن دور السينما لعبت دورا مهما في بناء شخصيتهم وطريقة تفكيرهم من خلال مشاهدتهم للعديد من الأفلام المختلفة والمتنوعة، حيث أبرزوا أن شراء تذكرة الولوج إلى قاعة السينما كان من أولوياتهم، لكن مع التطور الحاصل في زماننا اليوم أكدوا أن لا داعي للذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم معين في ظل وجود العديد من التطبيقات على الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية التي تمكن عشاق السينما من تحميل العديد من الأفلام بضغطة زر واحدة مبررين سبب هذا التنكر الكبير لفضائل وجميل القاعات السينمائية عليهم بعبارة ” أصبح الفرد اليوم في ظل التقدم التكنولوجي و زمن العولمة مجبورا ومكرها على مسايرته”.
حسن، شخص في عقده الخمسين عاشق لمشاهدة الأفلام ، أكد أنه سار يفضل مشاهدة فيلم مع أفراد أسرته في المنزل دون الذهاب إلى السينما مبررا اختياره بقوله:” أفضل شراء خمسة أو ستة أفلام في أقراص مدمجة بثمن 25 أو 30 درهم على أن أدفع نفس الثمن لمشاهدة فيلم واحد داخل قاعة السينما، أجد الراحة في بيتي الذي قمت بتجهيزه بمعدات الصوت والصورة خصيصا لمشاهدة الأفلام والاستمتاع بها رفقة أسرتي”.
نقطة أخرى التي أشار إليها حسن والتي كانت من الأسباب المباشرة التي دفعته لمقاطعة القاعات السينمائية، هي أن شباب اليوم لم يتربوا على أدبيات مشاهدة فيلم داخل السينما، فمن هب ودب من عامة الناس يأتي إلى القاعة السينمائية لأغراض أخرى غير مشاهدة الفيلم قائلا: “هذا يشكل إزعاجا كبيرا لي ولأسرتي”.
فالملاحظ انطلاقا من شهادة حسن أن القاعة السينمائية اليوم أصبحت في وضع صعب لا يحسد عليه وليس بالسهل معالجته، فمتعة الذهاب إلى السينما ومشاهدة الأفلام داخل القاعة لا مثيل له وإن تعددت الوسائل التكنولوجية الحديثة بكل أنواعها وأصنافها.
وفاء متجدر ومتواصل
رغم الوضع المزري الذي تعيشه القاعات السينمائية اليوم على قلتها، مازالت فئة وفية لهذه المعلمة الثقافية تزورها كل ما سنحت لهم الفرصة ذلك.
حنان، امراة عاشقة للفن السابع ظلت وفية لقاعة السينما التي تعتبرها مدرسة عريقة تعلمك دروسا وتستخلص منها عبرا جمة عن طريق مشاهدة الأفلام، والمواظبة على زيارتها اعتراف بجميل القاعة السينمائية، وقالت:” أصطحب معي أبنائي لمشاهدة الأفلام أحيانا لأربي فيهم عشق السينما، فبعد مغادرتنا للقاعة عند انتهاء العرض أناقش مع أبنائي محتوى الفيلم وهل استوعبوا ما جاء في مشاهده حتى يترسخ لديهم حب مشاهدة الأفلام ولينعكس على شخصيتهم بالإيجاب مستقبلا”.
إقبال ضعيف على الصالات المظلمة التي أصبحت تعاني العزلة والفراغ الدائمين بعد أن كانت تتباهى بهما في زمن الازدهار، حتى صارت تشكي حالها لكل من وطأت قدماه أرضها مناضلة ومقاومة من أجل البقاء حية.
داء القرصنة وغياب البرامج التعليمية
لاشك أن شبح القرصنة يعد من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في اندثار القاعات السينمائية ، فيحكي أحد بائعي الأقراص المدمجة المتجولين، أن الأفلام هي الفئة التي تحقق مبيعات أكثر في اليوم، فجميع زبناء المقاهي والمارة في الشارع يسألون عن جديد الأفلام العالمية التي يحملها بطريقته الخاصة ويقدمها للزبون في قرص مدمج بثمن بخس دراهم معدودة.
البرامج التعليمية والتحسيس بأهمية السينما في بناء الذات والتعرف على الثقافات والعوالم تظل غائبة تماما والذي يعتبر كذلك من الأسباب التي جعلت جيل الشباب الحالي لا يكترث بأهمية القاعات السينمائية، فغياب مادة متخصصة في المجال الفني تساهم في توعية التلميذ والطالب غير موجودة في الأصل حتى يعرف ما هي السينما وما هي صلة الوصل بين السينما والجمهور؟
نبيل عيوش: القاعة السينمائية هي العلاقة الرابطة بين المخرج والجمهور
أكد المخرج نبيل عيوش في تصريح لجريدة “المصدر ميديا”، أن القاعات السينمائية هي الركيزة الأساسية في الفن السابع موضحا أن غيابها يؤثر بشكل كبير العلاقة بين المخرجين السينمائيين والجمهور وأضاف قائلا:” قليلة هي المدن المغربية التي تستطيع أن تشاهد فيها فيلما في قاعة سينمائية، الآن أصبحت القرصنة تغيب الجمهورعلى دور السينما.
وقال نبيل عيوش:” القاعات القديمة التي لم تعد صالحة في أعين الكثير من الناس اليوم، يمكن تحديثها بصياغة جديدة حتى تعود لاستقطاب الجمهور وتحيى من جديد”، وتابع مخرج فيلم “غزية” بالقول: ” لا يعقل أن تخسر أموالا باهضة على فيلم ولا تجد بعد ذلك جمهورا ليشاهده”.
اندثار القاعات السينمائية هي مسؤولية مشتركة بين جميع الفاعلين، فاللامبالاة وغيرها من العوامل الأخرى المساهمة في هذا الاحتضار سيؤدي لامحالة إن استمر الوضع هكذا إلى الانقراض.