كتب : د. محمد قصيبات
(1)
كان رواد الشعر في العالم العربي قلقين مما تصير اليهِ الأمور فيما يتعلق بحركات التجديد في الشعر العربي، فهؤلاء الرواد هم من بدأ في الخروج من قوالب الشعر القديمة حيث شرعوا في التحول رويدا رويدا من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة.. لكن لم يخطر على بال هؤلاء في الخمسينات من القرن الماضي أن الشعر العربي سوف يخرج وفي وقت قصير من منطقةِ الشعر إلى غياهب النثر.
بالطبع هذا لا يعني كما يقول الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي “أن الشعرَ أفضل من النثر، فلكل منهما وظيفته في التعبير عن ألق الفكر الإنساني ومغامرة الإنسان الوجودية” (*). وكان البياتي يكرر في كتاباته “أن الوزنَ هو جزءٌ من كتابة القصيدة ولكي يقول الشاعرُ شعرًا لابد له من أن يكون متمكنا من موسيقى الشعر والشعر بدون هذه الموسيقى لا يكون شعرا”.
ويرى الشاعر البياتي أن الموسيقى الشعرية هي تعبير عن موسيقى الكون.. والشاعر بلا موسيقى يصبح أعمى لأن تلك الموسيقى الشعرية هي التي تربطه بالكون.. إذا أضاعها أضاع طريقه .. فأوزان الشعر كما يقول البياتي هي “بوصلة الشاعر وعصاه التي يهتدي بها للوصول إلى البابِ المضاء… ذلك لأن الشاعر يوغل في أدغال محرمةٍ على كاتب النثر” .
(2)
يتفق الشاعرُ محمود درويش (والذي هو من جيلٍ من الشعراء الذين تأثروا بالبياتي وببدر شاكر السيّاب) مع آراء الشاعر البياتي حيث يقول أنه فخورٌ بإنتمائه إلى الكنز الموسيقى الذي هو الشعر العربي ويقول “أن الموسيقى شيء مهمٌ للقصيدة” وأن بحور الشعر أو على الأقل “التفاعيل” هي من أسس القصيدة وليست زينة لها. ثم يضيف درويش في كلِّ وضوح: “لابد أن يبقى الشعرُ شعرًا والنثر’ نثرا.. ليس من الناحية النظرية وحسب بل قولا وعملا.. وقد يراني بعضهم رجعيًا في هذا الموضوع.. فأنا لا أتفق مع الظاهرة التي تدعو لتحطيم ما جعل الشعرَ شعرا”(**)
(3)
يقول البياتي: التفاعيل من شروط الشعر لأن التفاعيل “مرتبطة بحركة قلبي… أي أني أتلمس بموسيقى وعروض هذه القصيدة أو تلك طريقي للوصول إلى أهداف بعيدة” ويرى أن للأوزان العربية طاقة هائلة لاستيعابِ المضامين الحديثة ثم يطرح سؤالا مهما: “كيف لا يستطيع الشاعر العربي أن يعبر عن نفسه من خلال كل الأوزان العربية وإمكاناتها… فهل نحن حقا نحتاج إلى أسس جديدة لكتابة القصيدة العربية؟”.
ويقول درويش: “بحور الشعر من أسس القصيدة … وأنا لا أجيد كلَّ لغات العالم لكني أعرف أن اللغةَ العربية هي اللغة الوحيدة التي تملك ستة عشر بحرا شعريًا”…عجبا أن نحطم أسس القصيدة وهذه البحور تمنحنا مساحة واسعة من التعبير الشعري. . ثم يضيف في موقع آخر “أقول دومًا أننا إذا أردنا الثورة على القصيدة العربية لابد أن نجيدها أولا”.. ويرى كما البياتي أن الثورة في الشعر لابد أن تكون من الداخل.
(4)
يتفق البياتي ودرويش على أن التجديد في الشعر العربي لابد أن يكون من الداخل، ويرى كلاهما أن “التفاعيل” هي من أسس القصيدة وأن الشعرَ يبقى شعرًا والنثر نثرًا ، وهذا لا يعني على الإطلاق أنهما يفضلان جنسًا أدبيًا على آخر.
ترى هل يمكن هنا أن يتدخل العلمُ في إثبات ما يقولان؟
أو بجملةٍ أخرى: ما رأى الطب في كلّ ما يقول الشاعران البياتي ودرويش؟
هذا ما سنجيب عنه في مقالةٍ قادمة
المراجع:
* البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا . عبد الوهاب البياتي ومحي الدين صبحي. دار الطليعة. بيروت 1990
** Mahmoud Darwich: La Palestine Comme Metaphore
Act Sud . Paris 2002