وأنا جالس أحتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد اتصلت بي “قريبتي العزيزة” وطلبت مني مرافقتها لسوق المدينة عند خياط الملابس التقليدية، الذي يقصده الكثير من أفراد الأسرة منذ زمن طويل، البعض لتشكيل وخياطة ازياء جديدة، والبعض لادخال بعض الإصلاحات على ألبسة اشتروها سالفا، طلبت مني مرافقتها وفعلت، وهذا السوق هو أحد أكبر المراكز التجارية هنا، ويوجد بقلب المدينة القديمة، يحيط به سور عتيق وله أبواب متعددة …
وعند دخولك للسوق تستقبلك رائحة الفشار، وأنواع المكسرات المقرمشة الشهية، التي تنتشر عرباتها في الأرجاء …
أتخذنا أنا وقريبتي طريقنا بين دروب السوق صوب محل الخياط، وأول ما مررنا به محلات مقاهي ومطاعم صغيرة تقدم مأكولات تقليدية من حلويات ووجبات إفطار خفيفة، ووجبات كاملة كالطواجن والكسكس والأسماك، و تنبعث من المكان روائح تسيل اللعاب، كراسي هذه المحلات وطاولاتها بسيطة ومن الأخشاب، ولكنها ممتلئة عن أخرها بالرواد، والغريب أن أغلبهم من السياح الأجانب …
وبعد التقدم أكثر داخل السوق تصل إلى مقطع منه مخصص لبيع المنتوجات الجلدية والصناعات التقليدية، من ملابس وأثاث … ويلي مباشرة محلات العطارين، وهذا المكان بالضبط له سحر خاص، فما أن يمتلئ خرطومك برائحة ما يعرضونه من توابل وبهارات ومنتجات تقليدية “بلدية كما يقال بالدارجة” حتى تحس بحالة من النشوة والسعادة … شخصيا هذا ما يحدث معي، وأتمنى أن لا يكون هذا دليل على حالة من الإدمان !
(فيما يخص كلمة خرطوم فقد وردت في القرآن في الآية ” سنسمه على الخرطوم” ومن تفاسيرها الأنف)
وأخيرا وصلنا محل الخياط الذي استقبلنا بابتسامة عريضة وبكل الترحاب، أعطته قريبتي الملابس التي تريد إدخال إصلاحات عليها، وأخبرها أن الأمر لن يتطلب وقتا طويلا وبامكاننا الانتظار، أعطاني الخياط كرسي للجلوس، بينما فضلت “قريبتي” الذهاب للقيام بجولة عبر السوق، ولا أخفيكم سرا فأنا مثل الكثيرين من بني جنسي “الرجال” لا نحب كثرة التجول في الأسواق والمتاجر، وعندما أضطر للتبضع، أعتبر المسألة مهمة رسمية، أنطلق في خط سير محدد وواضح، وبأهداف محددة سلفا، أقصد المحل الفلاني، لشراء البضاعة الفلانية وأعود أدراجي في أسرع وقت …
وربما كذلك من أسباب كرهي للتجول في الأسواق، عقدة تولدت عندي منذ الصغر، فقد كانت في بيتنا مساعدة لا زلت أذكر أسمها “عتيقة” تحب زيارة السوق الأسبوعي، وكانت تحبني كثيرا وتصحبني معها في جولاتها تلك، والتي كانت تمتد لساعات طوال تحت الشمس وبين غبار وأتربة أسواق ذلك الزمن، وليس كما هو حالها اليوم حيث أصبحت اكثر نظافة وأكثر تنظيم، ومنذ ذلك الوقت كرهت السوق والتجوال فيه …
أعطاني الرجل الكرسي، فقلت مع نفسي جيد، فالجلوس هنا لبعض الوقت فرصة للمشاهدة والتأمل والاطلاع على أحوال السوق ورواده من هذا الموقع …
“بونجور مادام … بيانفونو” يقول صاحب متجر بيع الحلي المصنوعة من الفضة الملاصق لمحل صديقنا الخياط بلغة فرنسية ركيكة لبعض السائحات الأجنبيات، واللاتي من كلامهن يتضح أنهن لم يفهمن ما يقوله بائع المصوغات، فتجاهلن كلامه، فهن يتحدثن بلغة، غالبا من لغات دول أوروبا الشمالية أو كما يسمون الاسكندنافيون، وأشكالهن تدل على ذلك، طوال القامة، بشرتهن أبيض من الحليب، عيونهن كعيون قطط سيامي، وتظنهن خرجن للتو من شاشة التلفاز وبالضبط من مسلسل “the viking” …
والمسلسل هذا يحكي جزء من تاريخ شعوب أوروبا الشمالية، تقريبا الشعوب التي تقطن حاليا دول “الدنمارك، النرويج، والسويد” … حلقاته مليئة بالأحداث الجميلة والرائعة، وكثير من الحروب الدامية، وأحيانا مشاهد مقززة ومنافية للفطرة السليمة، وباختصار تدور أحداث المسلسل حول شخصية “راغنار لورثبروك” الذي كان أحد أكبر الأبطال، ورمز من الرموز التاريخية في تلك البلاد، وبحسب رواية المسلسل، فلقد تمكن هذا المحارب من توحيد قبائل وإمارات وممالك إسكندنافية تحت قيادته في جيش كبير، وعبر به البحار واستطاع السيطرة على جزء كبير من أراضي المملكة المتحدة، وتمدد في حروبه وغزواته حتى وصل إلى العاصمة الفرنسية “باريس” …
وفي الجهة المقابلة لمكان جلوسي عند مضيفي الخياط، يوجد محل يبيع الساعات، كل أنواع الساعات، بانيراي panerai ، باتيك فيليب patek philppe ، بولغاري bvlgari، الروليكس Rolex ، وهذه الساعات أثمنتها عشرات بل مئات الآلاف من الدراهم، ولكن بطبيعة الحال الأصلية منها، أما هذه الذي تباع هنا، فهي مجرد نسخ مقلدة، واثمنتها بضع مئات من الدراهم فقط، وهذا ربما السر وراء تكدس المحل بالزبناء الراغبين في الظهور بمظهر الأثرياء في المجتمع بأقل ثمن ممكن …
وبالقرب من صاحب الساعات يتواجد محل مخصص لبيع الهواتف النقالة واكسسواراتها، وكذلك مختلف الآلات الإلكترونية، فتجد عندهم الأنواع البسيطة الموجهة لمحدودي الدخل، وبالمقابل الأكثر تطورا وأخر ما أنتجت التكنولوجيا، سامسونج آخر موديل، آيفون جميع النسخ، والهواتف الصينية من جميع الماركات، وباقي المنتوجات التي قلما تجدها حتى في أرقى الأسواق الأوروبية … والذين يشتغلون في تلك المحلات من كثرة تجاربهم في هذا الميدان أصبحوا خبراء في عالم الإتصال والتكنولوجيا حتى بدون ولوج معاهد متخصصة … !
وبينما أنا غارق في حالة التأمل، تعالت الصرخات من إحدى جنبات السوق غير بعيد عن المكان الذي أتواجد فيه، وبدأ الصوت يقترب مني بالتدريج، فإذا بهم شخصين قادمين من بعيد، يظهر من حالهما أنهما متسولان، وكل واحد ممسك بتلابيب الآخر ويشتمه بأقذع الألفاظ، وما فهمت من كلامهما أن المسألة تتعلق باستيلاء أحدهم على موقع إستراتيجي في السوق، كان الثاني يتخذه مكانه وملكيته الخاصة لممارسة مهنته كمتسول محترف …
وحرفة التسول هذه بحسب العديد من الشهادات، تجارة جد مربحة وتذر على أصحابها مبالغ ضخمة، يجنون منها ثروات كبيرة، وبطبيعة الحال مقابل هدر الكرامة وماء الوجه، والدليل هو القصص المتواترة عن العثور على أموال طائلة في أكواخ كان يسكنها متسولون محترفون بعد وفاتهم، وهم في حالة مزرية …
وعندي صديق يقول أنه يفضل البحث بنفسه عن المحتاجين من الأرامل واليتامي والمحتاجين، والوصول إليهم، ومساعدتهم بدل من إعطاء صدقاته لمحترفي التسول …
رجعت “قريبتي” من جولتها وكان الخياط قد أنهى العمل، رحلنا عن المكان، وفي طريق الخروج من السوق عرجنا على بائع حلويات لأقتناء البعض منها، فهذه من الأمور التي تعودنا عليها في الصغر مع أمهاتنا الكرام، وأصبحت عادة جميلة …
وقبل أن أختم أحداث قصة هذا الأحد، سأجيبكم على السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهانكم الآن، وهو ما علاقة العنوان أعلاه “البوناني” بمقال هذا اليوم، فأقول لكم أنه لا ترابط بينهما … !
أنا فقط قلت أن اليوم آخر ايام السنة الجارية، والليلة هي ما اصطلح على تسميتها بالدارجة المفرنسة ب “البوناني” أي “السنة الجديدة الجيدة أو الطيبة او السعيدة أو ما شئت” وقلت أذكرها من باب المشاركة والدلو بدلوي حتى أنا في النقاش الدائر هذه الأيام، وفي كل فترة يقترب فيها موعد ليلة رأس السنة الميلادية، النقاش حول الاحتفال بها، هل هو حلال أم حرام، وماهي أفضل الأماكن لقضاء الليلة فيها، وماهي أفضل العروض التي تقدمها الفنادق والمطاعم للساهرين فيها والساهرات، والعابرين إلى العام المقبل على أنغام رباعيات عمر الخيام … ” فما أطال النوم عمرا … ولا قصر في الأعمار طول السهر “.
فقط هذا كل ما في الامر … !
وإلى الاسبوع المقبل، والعام المقبل، ودامت لكم الصحة والعافية.
كتب : الدكتور سعد ماء العينين