همزات الشياطين(2) المبدع وصورته…

لا أعرف بالضبط متى بدأت فكرة وضع صور المبدعين والكتاب على أغلفة مؤلفاتهم، ولكن الشيء الأكيد أنها كانت خطوة كبيرة في مسار العلاقة بين المبدع والمتلقي. خلقت وشائج حميمية بينهما وأصبح القارئ يستحضر وجه المؤلف الذي يرافقه خلال قراءاته، وقد يحتاج الأمر إلى دراسة لمقياس تأثير هذه العلاقة، تماما كما نقرأ النصوص الموازية كالغلاف والعنوان…وغيرها.

واللافت للنظر، أنه رغم كم الدراسات التي تناولت هذه العتبات، إلا أنها لم تلتفت إلى الصورة الشخصية، رغم أنها تأخذ من الكاتب وقتا كبيرا في التفكير والاختيار وجهدا في وضعية التصوير. وكأن الكاتب يريد أن يقول أشياء كثيرة من خلال تلك الصورة…

هذه العلاقة بين المؤلف وصورته انتقلت إلى مرحلة متقدمة مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، وتجاوزت المبدعين والكتاب إلى كل من يستعمل هذه الوسائل. وتجاوزت الصور، شكلها الشخصي إلى جوانب أخرى اجتماعية، عائلية، عملية، ثقافية، اقتصادية….

أصبحت الصور كملفوظ بصري، جسرا للشخص بكل جوانب حياته -حقيقة كانت أو وهما- إلى الآخر في علاقة تفاعلية، تصبح أحيانا مثل مباراة في إظهار البؤس، الألم، السعادة، السمو، الحزن، الجرأة، وأشياء كثيرة قد لا تخطر على بال…

هذه الطفرة، عززت عندي التساؤل حول أهمية قراءتها، ولكن أيضا التساؤل، إلى أي مدى تؤثر الصورة في صناعة اسم المبدع؟ هل هناك علاقة واضحة بين الصورة والإبداع؟ وهل تصمد الصورة مهما كانت “مؤثرة” أمام ضحالة المنتوج الإبداعي والفكري؟

قد تتداخل سياقات كثيرة في نحت أجوبة قاطعة، ولكن بالعودة إلى ما قبل زمن الصورة، وفي إطلالة على تاريخنا الأدبي، فإننا عندما نسمع أسماء مثل الجاحظ، الحطيئة، ذو الرمة، الفرزدق، ابن الرومي، المعري، بشار بن برد، عامر ابن الطفيل…، ستحضرنا مباشرة أعمالهم، رغم الصفات القدحية التي تملأ سيرهم، من الناحية الشكلية أو الأخلاقية…
فالجاحظ أو الحدقي (أحد ألقابه) رغم أن اسمه يحمل صفة جحوظ عينيه، إلا أنه لا يرتبط في أذن المتلقي، إلا بعَلَم كبير في الثقافة العربية أدبا وفكرا وحكمة، وبروائع كالبيان والتبيين، الحيوان، البخلاء، التربيع والتدوير….
وعندما نبحث عن وصف للجاحظ، نقرأ: “كان قصيرا، دميما، جاحظ العينين، قبيح المنظر. إلى أن قيل فيه:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا
ما كان إلا دون قبح الجاحظ

بل له حكايات عن نفسه، يتحدث فيها عن قبح وجهه، وما يسببه له من حرج…
شاعر آخر، يحمل اسمه صفاته، وهو الحطيئة وقد” لقّب بذلك لقصر قامته وقُربه من الأرض، فقد جاء في معجم لسان العرب أنّ الحطيئة هي تصغير حطأة، وهي الضرب بالأرض أو الرجل القصير، وقيل سمي بذلك لدمامته، والدمامة تعني قُبح المنظر وصغر الجسم.”
ورغم هذه الحمولة، القدحية فإن اسمه لا يرتبط إلا بشاعر كبير، حتى ولو اشتهر بالهجاء. فإن شاعريته ثابتة. ويبدو أن تَلقِّي الحطيئة كشاعر، لم يتأثر حتى بسوء طباعه، وهو الذي لم يسلم أحد من لسانه، حتى سجنه عمر بن الخطاب( قضيته مع الزبرقان بن بدر)، فخاطبه بأبيات رقيقة رق لها قلبه، فعفا عنه:
مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَحٍ
زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لا مَاءٌ وَلا شَجَرُ
أَلْقَيْت كَاسِيَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
فَاغْفِرْ عَلَيْهِ سَلامُ اللَّهِ يَا عُمَرُ
وهو الذي هجا أمه ونفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
نموذج آخر، ذو الرمة غيلان بن عقبة، قالت عنه أمه: “اسمعوا شعره ولا تنظروا إلى وجهه”، فقد كان قصيراً، قبيح المنظر، ولكن ذاكرة الشعر العربي خلدت اسمه، عاشقا جميلا، رقيق الغزل، قضى حياته ينشد أشعارا في محبوبته مي:
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ
كَأَنَّهُ مِنَ كُلى ً مَفْرِيَّة ٍ سَرِبُ
وقوله:
وعَينانِ، قال اللهُ كُونَا فكانَتا
فَعُولانِ بِالألبَابِ ما تَفعَلُ الخَمرُ
وهناك نماذج أخرى كثيرة خلدتها لنا الذاكرة الأدبية العربية، كبشار ابن برد والفرزدق، عامر ابن الطفيل…وغيرهم وتثبت أن التلقي الحسن، والخلود في ذاكرة الإبداع لم يتأثر كثيرا بصفات الكاتب الخِلقية ولا حتى الخُلقية، بل بما ينتجه فكره وقريحته. ولنا في قولة الإمام أبي حنيفية، المشهورة التي ذهبت مثلاً، عبرةٌ: “آنَ لأبي حنيفة أن يمد رجليه”، والتي توافق مقولة أرسطو:
” تكلم حتى أراك”…
تلك بعض همزات شياطين الأدب تقاسمتها معكم، وما زال لتوابعها بقية…

كتبت : الدكتورة العالية ماء العينين

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد