“موائد الرحمن” طقس رمضاني في مصر يتحدى الحداثة

في أحياء مصر الراقية كما في أحيائها القديمة، تشكل موائد الرحمن قاسما مشتركا في شهر رمضان ، حيث تشكل هذه الموائد، ملاذا للإفطار بالنسبة للفقراء وعابري السبيل فضلا عن كونها مناسبة لأبناء الحي الواحد للالتقاء على مائدة إفطار واحدة.

ففي مشهد احتفالي بديع، تتدلى فيه الزينة فوق الرؤوس، وتنير الفوانيس الشوارع، تتجهز موائد الرحمن بصنوف الطعام، ومن حولها يجلس رواد تلك الموائد يتبادلون أطراف الحديث انتظارا لدوي صوت مدفع الإفطار إيذانا بانتهاء يوم الصيام، ليشرع الجالسون حول الموائد في تناول وجبة الإفطار في جو يسوده التآخي والتآزر والألفة والحب.

ويعود تاريخ تنظيم موائد الرحمن في مصر إلى عهد أحمد بن طولون (مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام من الفترة 254 هـ/868 – 270 هـ/884)؛ حيث يعتبر أول من أقامها، إذ كان يقوم بجمع كبار التجار والأعيان في مصر في أول يوم من شهر رمضان على الإفطار، ثم يلقي عليهم خطبة يذكر لهم فيها، أن الغرض من المائدة هو أن يذكرهم بالإحسان والبر بالفقراء والمساكين، وكان يأمر بأن تظل هذه المائدة موجودة طوال شهر رمضان، كما طلب من التجار وكبار الأعيان أن يفتحوا منازلهم، ويمدوا موائدهم للمحتاجين.

وقديما كانت موائد الرحمن تتركز بجوار المساجد العتيقة مثل مسجد الحسين والسيدة زينب والأزهر؛ وذلك لتوافر أعداد كبيرة من التجار بتلك المناطق، لكن مع مرور السنوات بدأت بعض الهيئات في مصر تتولى من جهتها تنظيم هذه الموائد مثل وزارة الأوقاف والجمعيات الخيرية والأهلية، كما تشرف وزارة الصحة على مراقبة ما يقدم في هذه الموائد من أطعمة ومشروبات حرصا على سلامة المترددين عليها.

يقول الخبير الاقتصادي محمد البخشونجي، إن السكان في الأحياء الراقية لا يزالون يداومون على تنظيم موائد الرحمن، باعتبارها “وجها من أوجه الخير، وطقس رمضاني أصيل، تجمع المواطنين من كافة الفئات على سفرة رمضانية واحدة”.

ويضيف البخشونجي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن فكرة “مائدة الرحمن” شهدت بحكم متطلبات العصر الحديث نوعا من التطور، فأضحت عملية تنظيمها تتم في خيم يتم تصميمها بشكل خاص لتستوعب المائدة، فضلا عن أن عملية إعداد الطعام شهدت هي الأخرى نوعا من الحداثة، فلم تعد تلك العملية تتم من خلال طهاة في مكان إقامة المائدة، بل يتفق المساهمون في تنظيم المائدة على جمع مبالغ مالية والاتفاق مع أحد مطاعم إعداد الطعام التي تعمل بدورها على إيصال الطعام طازجا قبل موعد الإفطار بقليل.

من جهتها، تقول أستاذة علم الاجتماع هالة منصور أن تنظيم موائد الرحمن يعد نوعا من أنواع التكافل الاجتماعي بين المصريين، وظاهرة تعكس جليا الروابط الإسلامية في الاجتماع على مائدة واحدة، حيث لا تقدم هذه الموائد الطعام فقط، بل تقدم كذلك طقسا رمضانيا تسوده الروحانيات والحميمية، ما يشكل مناخا طيبا لاكتساب المودة والمحبة والتعارف.

وأضافت أن “موائد الرحمن” في مصر علامة على التكافل والمشاركة، حيث ترفع تلك الموائد شعار “ك ل ما شئت ولا تدفع شيئا”، إذ يولي المصريون اهتماما ملحوظا بهذه اللفتة التي تتطور كل سنة وتبدو كعلامة ترحيب وبهجة بشهر رمضان وتحية للصائمين.

ولا يقتصر تنظيم موائد الإفطار على المسلمين فقط، بل يواظب عدد من الأقباط في مصر على إقامة موائد إفطار يومية لجيرانهم المسلمين، حيث يرون أن تنظيم تلك الموائد ليس حكرا على دين معين، وأن تلك اللفتة الطيبة تعد أمرا عاديا وامتدادا لكل مظاهر التعايش الطبيعية.

كما لا يقتصر ضيوفها على الصائمين والمسلمين، بل تستقطب أشخاصا من جنسيات وديانات مختلفة، ممن يستهويهم الانفتاح على ثقافات مغايرة واكتشاف قيم وعادات جديدة ومختلفة.

ومواكبة للتطورات لا سيما التكنولوجية منها، دأبت عدد من موائد الرحمن على اشتراط الحجز والتسجيل المسبق على بوابة إلكترونية لحجز مكان بالنظر للإقبال المتزايد على هذه الموائد.

 

المصدر ميديا : و م ع 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد