ليس من قبيل الصدفة أن يلتقي المغرب بكينيا في لحظة دبلوماسية تحمل في طياتها أكثر من دلالة سياسية. فحين يزور وزير الخارجية الكيني الرباط، وتتوج هذه الزيارة بافتتاح أول سفارة لكينيا في المغرب، فإن الأمر لا يقتصر على بروتوكول دبلوماسي، بل هو تأسيس لعهد جديد من التفاعل الجيوسياسي داخل القارة.
في الجغرافيا، يبدو المغرب وكينيا كطرفي جناحين يحضنان إفريقيا من جهتيها المتقابلتين. وفي السياسة، يمثل هذا التقارب خطوة نوعية نحو تفعيل رؤية إفريقية ناضجة، تقطع مع التمثلات القديمة التي كانت تُختزل في الاصطفاف الأيديولوجي وتبدأ الآن في الانفتاح على المصالح الاستراتيجية، والمقاربات الواقعية، والشراكات المتوازنة.
افتتاح السفارة الكينية في الرباط ليس مجرد إجراء إداري أو بروتوكولي، بل هو إعلان ضمني عن موقع المغرب في السياسة الخارجية الكينية، وتقدير متجدد لدوره الإقليمي، خاصة في ملف الصحراء المغربية الذي لطالما شكل حجر زاوية في السياسة الخارجية المغربية.
لقد أدركت نيروبي أن الموقف من قضية الصحراء لا يمكن أن يبقى أسير مقاربات مؤدلجة تجاوزها الزمن، بل ينبغي أن يُبنى على حقائق التاريخ، وعلى موازين الشرعية الدولية، وعلى منطق التعاون جنوب-جنوب. وفي هذا السياق، فإن دعم السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية يُترجم اليوم بشكل هادئ ولكنه بالغ الدلالة، من خلال تعزيز الحضور الدبلوماسي، والانخراط في شراكات تنموية مستدامة، وتمهيد الطريق لتقارب سياسي أكبر.
تأتي هذه الزيارة في سياق إقليمي ودولي متحول، حيث تسعى الدول الإفريقية إلى استعادة زمام المبادرة، وتثبيت مبدأ الشراكة الإفريقية الخالصة بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. والمغرب، الذي راكم تجربة دبلوماسية ناجحة في هذا المضمار، يمد اليوم يده إلى كينيا كقوة صاعدة في شرق إفريقيا، بما يشكل بداية لمحور استراتيجي عابر للجهات والقناعات القديمة.
تحالف المغرب وكينيا ليس فقط جسراً بين ضفتي القارة، بل هو أيضًا تصحيح بوصلة، وإعادة توجيه للعلاقات الإفريقية نحو منطق براغماتي، يقيم وزناً للأمن والاستقرار، ويضع أسس تنمية متبادلة، ويحترم الخصوصيات الوطنية.
حين تلتقي الرباط بنيروبي، فكأن إفريقيا تقرأ خريطتها من جديد: من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.. ثمة خيط ممتد من الوعي السياسي الإفريقي الجديد، وبهذا المعنى، فإن الجغرافيا لم تعد فاصلاً بين الشعوب، بل جسراً يحمل في طياته مستقبلًا من التكامل، يقوده العقل السياسي الإفريقي من داخل القارة، ولأجل القارة.
إن زيارة وزير الخارجية الكيني، وافتتاح سفارة بلاده في الرباط، ليست سوى صفحة أولى من كتاب جديد يُكتب بين البلدين. كتاب قد تبدأ فصوله من السياسة، لكنه سيُستكمل بالتعليم، والاستثمار، والتكنولوجيا، والتعاون في قضايا الأمن، والمناخ، والتنمية
لنصل إلى خاتمة هذا الكتاب – أو بالأحرى خاتمة فصلٍ مضطرب من تاريخ القارة – قد تكون بداية النهاية لمنظومة الوهم التي ظل النظام الجزائري يروّجها لعقود. إذ لم تعد رواياته الانفصالية تجد لها موطئ قدم في إفريقيا الجديدة، حيث تتقدّم الواقعية السياسية على الأوهام الإيديولوجية، وتعلو السيادة الوطنية على مناورات التشويش. ولعل في هذه المبادرة الإفريقية–الإفريقية ما يُلهم نظام الجارة لبقرأ المتغيرات بعين أكثر واقعية، وتستوعب أن العالم الجديد لا يتسع لمن يتشبث بالماضي، وإنما لمن يبني المستقبل.
حجيبة ماءالعينين