ماءالعينين: على عكس ما روجت له البوليساريو الضحايا بأقاليمنا الجنوبية تعاملوا مع الهيئة بإيجابية

كتب : ماءالعينين ماءالعينين*

تلقيت دعوة كريمة من السيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الانسان الأستاذ أحمد شوقي بنيوب، وكان سيكون لي شرف تلبيتها لولا أن حالتي الصحية حالت دون ذلك، وبمناسبة هذا اللقاء المهم يسعدني إشراك قراء هذا المنبر، ومضات والتماعات مما تحتفظ به الذاكرة عن هيئة الانصاف والمصالحة، أبوح بها وأدونها لذاكرة التاريخ،

أولاها: وأكثرها أهمية، هي حكمة وحصافة وفطنة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، باختياره السديد والموفق للمرحوم ادريس بنزكري رئيسا للهيئة، فهو اختيار ثاقب وراجح لأساس متين، بنيت عليه العدالة الانتقالية، ورافعة متحركة كان لها الفضل الكبير في البناء، وربان ماهر شقت به سفينتنا عباب بحر مائج متلاطم الأمواج مليء بالحيتان.

لا معرفة شخصية لي بالرجل قبل الهيئة، ولكن حين عرفته، عرفت فيه الرجل المعتدل، والمعقول، والعملي، وهي صفات ذكرتني بحكيم الصين وفيلسوفها كونفوشيوس الذي جعل من هذه الثوابت أساس حكمته وفلسفته. وهكذا استطاع بنزكري بصبر ايوب ودهاء معاوية بن أبي سفيان، وحكمة كونفوشيوس وهدوء المفكر الذي ينظر الى الجزء المملوء للكأس بامتنان، ويعمل بهدوء على ملىء النصف الفارغ ،أن يصل بسفينتنا الى بر الأمان.

أعتقد جازما أن الرجل كان مدمنا على تتبع شخصية بوذا في محادثاته مه أتباعه، وعلى النصوص التي تصف حياة كونفوشيوس وتعاليمه، والحوار بين سقراط وتلاميذه، وأناجيل المسيح يسوع، فشكل هذا الخليط من الرجل شخصية فريدة يصعب فك خيوط وطلاسيم تكوينها.

ثانيتها: بعد انتهاء مراسم الاستقبال الملكي وتعيين الأعضاء، وبعدما كنا ننتظر تزويدنا بالقانون الأساسي للهيئة الذي سنشتغل في اطاره، كانت المفاجأة سارة وكبيرة حين أخبرنا من طرف الرئيس أن أوامر عليا صدرت إلينا بتهيئ القانون الأساسي .

توالت الاجتماعات قصد صياغة قانوننا الداخلي والاتفاق على مشروعه، ورفعه للجهات العليا، وكان طبيعيا ونحن من مشارب مختلفة وقناعات متعددة، وقليل منا من هم على قلب واحد، وحتى وأن كانوا كذلك فكثيرا ما يتشظى إلى شظايا يصعب جمعها إن لم يستحل.

اقترح كل منا ما يتماشى مع قناعاته، وكنا نعتقد (وهذا ما كان متداولا بيننا في الكواليس) استحالة قبوله على ماهو عليه، وكانت المفاجاة الثانية كبيرة وسارة، بعدما ارجع إلينا من الجهات العليا بكلماته وجمله ونقطه وفواصله دون زيادة ولا نقصان، وعليه الطابع الملكي الشريف، مما أضفى عليه صفة الظهير الشريف، وهذا يعني أنه إن كان ثمة قصور في ما قمنا به (وسيكون طبعا) لأن عمل البشر معرض للخطأ والصواب، فإن ذلك لا يرجع لأية جهة كانت بقدر ما نتحمل نحن الأعضاء مسؤوليته.

ثالثتها: لم يكن للمرحوم بنزكري وحده القدرة على قيادة سفينة الهيئة إلى بر الأمان لو لم تكن معه ثلة من الأعضاء اختيرت من طرف جلالة الملك بنفس العناية والصواب والرجحان الذي اختير به رئيسها، ودون التنقيص أو التقليل من مكانة وحجم وشموخ وكفاءة الأخت والاخوة الذين يشكلون أعضاء الهيئة، فإنني أستسمحهم إن أنا خصصت بالاسم دينامو الهيئة، جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب (كما يقول العرب) ، محرك دواليبها، الساهر الأمين على ما تقرره وما يقرره رئيسها، جاعلا منها مسكنه، وبها مشربه ومأكله، آخر من ينام، وأول من يستيقظ، لا تغريه الأسفار، والمغريات (إن وجدت) الصبور القنوع، صاحب العلاقة الانسانية الطيبة مع بقية أعضاء وسائر مكونات الهيئة، إنه السيد : أحمد شوقي بنيوب، فلئن كان بنزكري يوصف بأنه مهندس العدالة الانتقالية في الوطن، فإن شوقي بنيوب هو طبوغرافيها بامتياز، وقاعدة بياناتها المتحركة، فالاعتراف بالفضل لأهل الفضل فضيلة.

رابعتها: ولأن المناسبة شرط، فإن مناسبة ما سأقوله الأن أساسه انتمائي لأقاليمنا الصحراوية المغربية، وثانيا: وجودي حينئذ مسؤولا على القضاء بالمنطقة، بصفتي رئيسا أولا لمحكمة الاستئناف، وثالثا: لكوني كنت مكلفا بالكثير من ملفات الضحايا بالمنطقة، وبالتنسيق بينهم وبين الهيئة، والإشراف على جميع أنشطتها بالمنطقة، فإنني أختم هذه المداخلة بنقطة مضيئة، أسجلها للتاريخ كذلك وهي أن جميع ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بأقاليمنا الجنوبية أو ذويهم وبدون استثناء تعاملوا معنا بتلقائية، وعفوية، وإيجابية، بعيدا عن كل ما كان يعتقده أو يخطط له ويراهن عليه أعداء وحدتنا الترابية.

ولا بد لي كذلك من الاشادة بالانجازات التي حققتها الهيئة بتلك الجهة والايجابيات الكبيرة التي عالجت بها ملفات الضحايا واصلاح اخطاء الماضي من الممارسات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، تلك الانتهاكات والاخطاء التي أعتبرها كما اقول دائما أكبر دليل على مغربية الصحراء انطلاقا من الحديث النبوي الشريف ونصه “الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”وصحراؤنا كانت وستبقى دائما جزءا من هذا الجسد العزيز الذي تعرض في وقت من الاوقات الى ما نعرفه جميعا، وهي صفحة سوداء طواها جلاله الملك بحكمة وعقلانية وشجاعة اصبحت مضرب الامثال.

وأختم فأقول أن المرحوم بنزكري، كان يتقصى الشاذة والفاذة في كل ما يتعلق بالملف الحقوقي لتلك الجهة، وكثيرا ما يسألني عن نقط ومسائل ومعلومات، من الدقة بمكان، ويختم قائلا إن جلالة الملك يهمه جدا الاطلاع على الملف الحقوقي، لضحايا تلك الجهة، في كلياته وجزئياته، ويخصه بعناية فائقة ومتابعة استثنائية.

ماءالعينين ماءالعينين
عضو سابق بهيئة الانصاف والمصالحة

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد