“احتكاكي بالفكر القومي للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر و تواصلي مع محاضرات الزعيم الفلسطيني أبو عمار ياسر عرفات حين كان قائد لإتحاد طلبة فلسطيني بجامعة القاهرة، من أبرز المحطات الحياتية التي أثرت في مساري النضالي إلى الآن”.
بهذه العبارة استهل شيخ الحقوقيين المغاربة “عبد الرحمان بن عمرو” حديثه لـ”لمصدر ميديا” وهو يسترجع ذكريات ريعان شبابه الذي ألقى به بين أحضان الفكر القومي العربي في الشرق بسوريا ومصر، وبتلك العبارة اقتفى “بن عمرو” اثر مسيرته النضالية تائها بين سراديب تفاصيلها لا يعرف لا من أين يبدأ ولا إلى أين ينتهي من فرط كثافة أحداثها وضخامة وقائعها.
الدراسة بحلب .. وخرق أول تقاليد المحاكم المغربية
عبد الرحمان بن عمرو شخصية استثنائية داخل الحقل السياسي والحقوقي .. تارة تجده بجبة السياسي والحقوقي في الصفوف الأولى للمسيرات والمظاهرة المناهضة للاستبداد، وتارة تجده بجبة المحامي يترافع باسم اليساري والإسلامي وباسم الطالب والعامل لا يفرق بين كُنْه أي كان ولو على حساب دخل مكتبه المادي.
بزوغ فجر بن عمرو الدراسي وسط المدارس الحرة التي أسسها الوطنيين زمن الاستعمار، والتحامه بالطلبة السوريين بمدينة حلب خلال دراسته الثانوية بسوريا، كانت كافية لِتُذكية في عروقه لوعة لغة الضاد .. لوعة جعلت منه المدافع الأول عن اللغة العربية بالبلاد، فكان بذلك أول من خرق تقليد المحاكم العصرية في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال.
رافع شيخ الحقوقيين في أولى قضاياه داخل ردهات محاكم البلاد باللغة العربية، وقدم تقرير مرافعته باللغة ذاتها لقضاة فرنسيين لا يتكلمون ولا يفهمون اللغة العربية، على اعتبار أن العرف الذي كان ساريا آنذاك هو أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية بالمحاكم العصرية، فكسر بذلك بن عمرو قاعدة كان من الصعب تكسيرها.
النشأة والمسار
تعلق بن عمرو بلغة الضاد، جعله يدعوا في أكثر من مرة لأشكال احتجاجية ضد التهميش الذي يطال لغته الأم داخل المؤسسات المغربية، إذ لم يخفي إعجابه وانجذابه لـ”لمصدر ميديا”، بتشبث السوريون بلغة “امرؤ القيس” و “الفرزدق” حين كان طالبا ببلاد الشام، مشكلين بذلك الإستثناء في العالم العربي، وفق تعبيره.
بين زقاق حي المحيط بالعاصمة الرباط في سنة 1933 رأى عبد الرحمان بن عمرو النور، قبل أن يفتح ومضات مساره الدراسي على نوافذ المدارس الحرة التي أسسها الوطنيون زمن الحماية الفرنسية على المغرب، ليشد بعد ذلك الرحال إلى باريس كخطة تَحَايُلية على السلطات الفرنسية للتوجه إلى سوريا، من أجل متابعة مساره الدراسي في السلك الثانوي، حيث أنه كان من الصعب التنقل بين الدول العربية خلال الفترة الاستعمارية.
تقلد بن عمرو منصب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان مرتين، فيما تحمل مسؤولية منصب الأمانة العامة لحزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي في وقت سابق، وتنصيبه أيضا نقيبا للمحاميين بهيئة الرباط في سبعينيات القرن الماضي.
بن عمرو .. والمؤامرة على الحسن الثاني
بعد ثلاث سنوات من الدراسة بسوريا توجه بن عمرو رفقة بعض رفاقه لإستكمال دراسته الجامعية بمصر، فعايش عن قرب وباهتمام صولات وجولات الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر دفاعا عن القضايا العربية، وتمكنه كذلك من ملاقاة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بجامعة القاهرة، غرست فيه الاستماتة والصلابة إزاء المواقف والمبادئ التي يدافع عنها.
بهذا الرصيد النضالي ذا النفحة اليسارية الذي تلقى الرجل أولى أبجدياتها بالشرق، شغل بن عمرو الرأي العام الوطني والدولي على مدار أزيد من نصف قرن .. لامس بحسه النضالي حتى أكبر القضايا التي زحزحت عرش البلاد، والبداية كانت مما سمي بـ (المؤامرة على ولي العهد).
واتُهم في هذه المؤامرة مناضلو الإتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1963، على الحسن الثاني حين كان وليا للعهد وكذلك بتهديد الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، بيد أن بن عمرو أبى إلا أن يرافع دفاعا عن رفاقه وهو في سنواته الأولى بمهنة المحماة.
الانفتاح على الإسلاميين والتمرد على أدبيات اليسار
وبالرغم من تَرَعْرُعِ نقيب المحامين المغاربة بين نفحات اليسار المغربي المعروف بمواقفه المناهضة للإسلاميين، إلا أنه حافظ على انفتاحه إزاء مختلف التوجهات الإيديولوجيا والسياسيةّ بالبلاد، وهو ما شكل تمردا على إحدى أدبيات اليسار المغربي.
لم يقف تمرد بن عمرو عند تلك الأدبيات، بل بلغ تمرده عليها حد الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين في السجون المغربية، وهو الشيء الذي يعزيه النقيب إلى تنشئته الاجتماعية داخل أسرته المحافظة، وإلى القومية العربية التي لقنته أبجديات الكفاح والنضال حين ألقى به قدر مساره الدراسي إلى الشرق.
“في ثمانينيات القرن الماضي .. كان النقيب عبد الرحمان بن عمرو، منارة تلتف حولها أجيال الاعتقال .. ولعل نظرية الشيخ عبد السلام ياسين الشهيرة في الحوار مع الفضلاء الديمقراطيين كانت مستوحاة من التلاقي الخليلي مع عبد الرحمان بن عمرو تحت ظلال جدران وأسوار المعتقل”.
هكذا تحدث المعتقل الإسلامي السابق “عبد الله العماري” عن شيخ الحقوقيين المغاربة، وهو يلامس البعض من الملامح الإستثنائية التي قلما وُجدت في شخص تشبع بالفكر الناصري وهو مناهضا لإسلاميي مصر، وباليسار السبعيني المغربي وهو متصارعا مع إسلاميي بلاده.