العلاقة بيني وبين البحر علاقة “موتورة”، فأنا أحبه حد الهيام، وأخافه حد الهوس، غير أني حين أجابهه أحس بالرهبة والشوق يمتزجان في جَناني، وأعجب ما يخيفني في البحر أنني أتخيل عالمه الذي يجنه في رهبة الموج وحنايا الزبد فأسبح في هذا الصراع الأزلي ؛ في عالم التخيل طبعا؛ بين ضلوع موجه الهادر، المنشغل دوما بصناعة الزبد وتبديده، وبين نشر أريجه في أفق الحائرين لعظمة هذا الكائن الخرافي الذي يخفي بزرقته الفاتنة وهديره المرتجف أسمى فتوة للحياة بكل أنواعها، وغرابتها وحيويتها.
ومن المفارقات التي لا أجد لها تفسيرا ولم أبحث لها عن تفسير، أنني حين أزور البحر الذي تنام مدينة الرباط؛ العاصمة المغربية الجميلة على كتفه؛ لا أميز أن كان الأيمن أو الأيسر؛ فإنني أحس بخيوط قوية، وحبال متينة تشدني إلى هذا البحر الذي أختار أن يحد من غضبه، ويهدئ من روعه، في عملية أتخيلها تصالحا مع المحيط الاجتماعي الذي سكن إليه، وبادله الحب بالحب، والاحترام بالاحترام.
ولأن الجمال يينع في كل أرجاء مدينة الرباط الرائعة والمتجددة كما عهدناها، فإن البحر سكن وخفف من غضبه ليلائم بين إرادة الذين اختاروا البناء، والتشييد وترك الجمال لينساب ويسيح في هذه الأرض المباركة. وبين من رعاهم وسدد خطاهم وخلق مناخا من السلم والطمأنينة والارتياح في نفوسهم، أعني جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه وسدد خطاه.
طبعا زرت مدينة الرباط بعد سنتين تقريبا وقد قلت بشأنها إنني أشعر حين أزورها بأني قضيت طفولتي في شوارعها الجميلة وحواريها الفاتنة وآثارها التاريخية الرائعة، وكأنني لم أولد في منطقة “العقل” بولاية اترارزه في موريتانيا الحبيبة، ربما يكون للأمر علاقة برابط خفي يجمع بين الرباطين؛ رباط العقل، والرباط المغربي. وللتاريخ في الأمر حكايات يصعب طمرها.
الأهم أنني الآن أتنفس يوميا عبير بحر الرباط الذي فتنني بعبقه وموجه وزبده، وأحس بكل عنفوان أن تشابها من نوع ما يجمع بين خلجات نفسي وبين خلجات إنتاج موجه زبده المسكون باللغط.
لقد كان لي الحظ في هذه الزيارة للمغرب الحبيب أن أزور بعض الشخصيات العلمية والروحية من أبناء الشيخ ماء العينين هما : الشيخ ماء العينين ماء العينين ،والشيخ حمداتي ماء العينين، كان اللقاء معهما مطبوعا بالمذاكرة العلمية والأدبية وكان لي الشرف العظيم أن أهداني كل منهما مؤلفا من مؤلفاته.،
أول ما قرأته من هذه المؤلفات رواية “الضريحين” للكاتب الروائي مأء العينين ماء العينين، الملقب “ولد ان” وقد استطاع مؤلف هذه الرواية أن يمزج، بين الحكي ورافد التراث الأدبي والإنساني بموريتانيا وبالمغرب خاصة للمنطقة التي اختارها؛ منطقة الواحات بتكانت وآدرار بموريتانيا وفي منطقة الساقية الحمراء، وفي المدن التاريخية المغربية خاصة مدينة “فاس” و”تيزنيت” وغيرهما.
الرواية هي استعراض موسوعي للتراث الثقافي البيضاني(البيظان)، بكل تفاصيله وغناه وتنوعه من الشعر العربي الفصيح ، والشعر الحساني الراقي، والحكم والأمثال الحسانية، وتاريخ المنطقة، وارتباطاتها الثقافية القوية والحيوية. من مدينة “شنقيط” إلى حاضرة “فاس” العامرة.
ولأن الصراع بين الحضارات هو السلك الذي ينظم العلاقة بين الشمال والجنوب، فقد اختار الكاتب شخصياته الروائية بعناية ليتجسد هذا الصراع فيما يشبه التكامل بين اليسار الذي أنجبته ثورة 1968م اليسارية ،ونخبة الجنوب لخلق نوع من التكامل بين ” الجنوب والشمال. نجد فتاتين باحثتين فرنسيتين مستعربتين من قمة هذا اليسار هما ( أيليت)، و(مارفيل).تغوصان في خضم البحث لتكتمل صورة عرض باذخ لثقافة المجتمع البيضاني بموريتانيا والمغرب. كما يتم في هذا المنحى.
لي عودة إلى هذه الرواية “الضريحان” مع رواية أخرى لنفس الكاتب عنوانها: “محكيات صحراوية” “BBC من أشعل هذه النار”
الكتاب الثاني هو كتاب “الجمع بين العقيدتين الحنبلية والأشعرية” للأستاذ الدكتور حمداتي اشبيهنا ماء العينين،
وجه الطرافة الأول في هذا الكتاب أنه جديد في موضوعه، أعني الطريقة والأسلوب الذي جمع فيه بين العقيدتين، فقد اعتمد الاستعراض النظري لكل الأقوال التي تتعلق بهاتين العقيدتين ليستنتج في النهاية أنهما تنبعان من منبع واحد، وتستقيان من نفس السراج.
وما أثار انتباهي من جملة الاقتباسات ما ورد في الكتاب من أن الحسن البصري قال:” لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده قالوا وما هو يا أبا سعيد قال: الحمد لله الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وصف به نفسه”. هذا الكلام العميق والدال يلخص لنا أهداف المؤلف من كتابه الذي يزيل به كل الأدران والضلالات والشبهات حول هذا المنبع الصافي السائر على النهج من أقوال السلف اصالح.
الوجه الثاني :أن المؤلف لم يخرج عن السنن الذي درج عليه المحققون إلا بقدر ما يخدم الرد على الفرق التي خرجت عن هذا السنن من مجسمة ومعتزلة، وخوارج وغيرهم من الفرق الكثيرة. التي ذهبت مذاهب وزعت الأمة وساهمت في خلق وانتشار عدد كبير من أحزاب وجماعات معظمها ضل وأضل.
الوجه الثالث: أن الترتيب الذي سلك الكتاب من بدايته وحتى نهايته نضح بمعرفة المؤلف العميقة، وإحاطته الكبيرة لما يعرف بعلم المقاصد، فلم يحجبه اللغط النظري، والمحاججة الكلامية والفلسفية، والإغراءات النظرية، عن محجة ناصعة ورؤية أصولية راجحة، كما عند أهل العقيدة الصحيحة، خاصة ما صدح به أبو الحسن الأشعري، وأتباعه من المدافعين عن عقيدة السلف الصالح.
الوجه الثالث: السياق النظري للكتاب يرتب علاقة لم تكن بدهية، ولافي متناول غير الراجحين في العلم بين الأشاعرة والحنابلة، حيث تبين بالحجج الواضحة الترابط الوثيق بين العقيدة عند الحنابلة والسادة الأشاعرة، ونفي كل انحراف عن جادة السلف الصالح وأهل السنة عن هؤلاء الذين نافحوا عن العقيدة السلفية السنية.
الوجه الرابع : أدرج الكاتب في هذا المؤلف بصورة تدعو للتأمل بعض المفاهيم كمفهوم البيعة والإمامة، وإمارة المؤمنين في عصرنا، وهو تنزيل لهذه المفاهيم في صلب المعتقد بمعنى أن ما لا يقام الأمر إلا به فهوركن من أركانه.
الوجه الخامس: بعد أن دمج المؤلف بين المعتقدين السلفيين السنيين المعتقد السني الحنبلي، والمعتقد عند الأشاعرة، أضاف موضوعا جديدا هو الجمع بين المنهج الصوفي والسلفية، لكن حصرا عند الشيخ ماء العينين. وما ذهب إليه في هذا الباب يدل على إحاطة شاملة بعلم التصوف كما عند هذا الشيخ الجليل.
صاحب الكتاب أفاض في إقامة الحجة على كل من يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وفي الدفاع عن العقيدة الأشعرية التي دخلت بلاد المغرب العربي في وقت مبكر نسبيا. وقد أحاط في مؤلفه بكل الجوانب التاريخية والنظرية والكلامية لما عرف بعلم المعتقد عند المتكلمين من أهل السنة والجماعة.
إنه كتاب يستحق النظر ويحيط بمختلف جوانب هذا الموضوع المعقد بعرض نظري سلس يرتب الأدلة حسب أولوياتها وردود مقنعة على أهل الضلالة والبدعة.
الكاتب الموريتاني ذ/ محمد الأمين أحظانا.