حالة من عدم اليقين تخيم على سوق العمل في الولايات المتحدة

لا يزال سوق العمل في الولايات المتحدة يشهد تحولات عميقة في سياق ما بعد الجائحة، إذ يتسم الوضع باستمرار ارتفاع التضخم الذي يواصل بسط تأثيره على قطاعات بأكملها من الاقتصاد الأمريكي.

فخلال السنتين اللتين أعقبتا فترة جائحة كوفيد-19 العصيبة، غادر حوالي 50 مليون أمريكي وظائفهم. هذه الظاهرة التي حملت اسم “الاستقالة الكبرى”، أربكت حسابات الاقتصاديين وبعثرت أوراق الشركات المنشغلة بالتعافي من تداعيات الأزمة الصحية.

+ “الاستقالة الكبرى” والبحث عن غد أفضل… وعن النفوذ

تشير الأرقام الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأمريكي إلى أن أزيد من أربعة ملايين التحقوا بموجة “الاستقالة الكبرى” شهريا.

وفي تفسير لهذا الاتجاه الذي انطلق في أبريل 2021 والذي دفع نجمة البوب الأمريكية، بيونسي، إلى تخصيص أغنية لمدى تأثيرها، يشير الخبراء إلى سعي الأمريكيين للحصول على و ظيفة بأجر أفضل وبالنظر للضغوط المتراكمة التي أثقلت كاهل الموظفين منذ سنوات، مثل الإرهاق أو عدم الرضا الوظيفي العام أو الاحتياجات المرتبطة برعاية الأطفال والأشخاص المسنين.

وفي هذا الصدد، قال نيك بونكر، مدير الأبحاث الاقتصادية في محرك البحث الخاص بالوظائف “إنديد”، في تصريح نقلته شبكة “سي إن إن”: “كانت للاستقالة الكبرى مزايا واضحة بالنسبة للعمال، إذ ارتفعت الأجور وتحسنت الامتيازات الاجتماعية في العديد من القطاعات”.

وبالنسبة لنيكولاس بلوم، الأستاذ في جامعة ستانفورد، فإن الدوافع التي حفزت هذه الظاهرة المهنية تمثلت بالأساس في مجموعة من العوامل المرتبطة بسوق العمل الضيق والتغيير الهيكلي الناجم عن الوباء.

وكتبت صحيفة “نيويورك تايمز” أن “هذه الموجة العارمة من الاستقالات ساهمت في توليد لحظة نادرة استأثر خلالها العمال بالنفوذ، مطالبين بأجور أعلى”، مسجلة أنه لم يكن أمام أرباب العمل، الذين يعانون من خصاص في اليد العاملة، خيار سوى تلبية هذه المطالب.

+ نهاية اتجاه “الاستقالة الكبرى” يفسح المجال أمام حالة من عدم اليقين

بيد أن “هامش الارتقاء الاجتماعي” تقلص بشكل كبير في عام 2023. فوفقا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، انخفض عدد الأشخاص الذين تخلوا عن وظائفهم إلى 49 ألف شخص في أبريل مقارنة بملايين الاستقالات المسجلة شهريا في عامي 2021 و2022.

وفي بحثهم عن إجابات لهذا التغيير الملحوظ، يشير الخبراء إلى استمرار ارتفاع التضخم الذي تسبب في غلاء المعيشة، فضلا عن شبح ركود اقتصادي وشيك.

ترى سامانثا ديلويا، الصحفية المتخصصة في شبكة “سي إن إن”، أن “عشر زيادات متتالية في أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتباطؤ نمو الأجور، والتضخم المستفحل، وعمليات التسريح الجماعي للعمال في بعض القطاعات، شجعت الأمريكيين على الاحتفاظ بوظائفهم”.

ويظهر مسح أجرته شركة “أديكو” المتخصصة في التوظيف، في أكتوبر الماضي، أن 73 في المائة من العمال لا يخططون لترك وظائفهم مقارنة بـ61 في المائة المسجلة في العام السابق. وبالنسبة للخبراء، فإن هذا الوضع الجديد، الذي يشكل تحديات جديدة لأرباب العمل، يمليه أيضا انعدام الثقة في سوق العمل المتقلب.

من جهتها، تبرز الخبيرة جيسيكا كريغل في تصريحات نقلتها الشبكة الإخبارية الأمريكية، أنه “على الرغم من الأداء الجيد لسوق العمل، إلا أن المخاوف تظل قائمة لدى الموظفين الحريصين على الحفاظ على المكاسب التي تحققت في فترة ما بعد كوفيد”.

ويرى مراقبون آخرون أن السؤال المطروح الآن يتمثل في ما إذا كان هؤلاء العمال قادرين على الحفاظ على هذه المكاسب أو ما إذا كان أرباب العمل سيستعيدون السيطرة ويفرضون قواعد اللعبة الخاصة بهم، لاسيما إذا انزلق الاقتصاد إلى الركود خلال العام المقبل.

وفي وقت يشكل فيه تراجع وتيرة الاستقالات نعمة بالنسبة للعديد من أرباب العمل الذين اشتكوا من نقص اليد العاملة، يرى آخرون أن الأمر يتعلق بأزمة يجب تدبيرها على النحو الأمثل.

وفي السياق ذاته، كتبت “وول ستريت جورنال” أن معدل دوران اليد العاملة سجل انخفاضا لدى بعض كبار أرباب العمل ليصل إلى معدل جعل الشركات تجد نفسها الآن أمام وضع يفوق الميزانية المخصصة لفرق معينة، مما اضطر مدراء الشركات إلى التفكير في ما إذا كان عليهم تأجيل المشاريع أو الاستغناء عن موظفين إضافيين مع اقتراب نهاية السنة”.

ونقلا عن نائب مدير الموارد البشرية في شركة “فيرينغ فارماسيوتيكالز” الأمريكية، بورفي تايلور، أشارت الجريدة إلى أن معدل دوران الموظفين يخلق فرص ترقية للموظفين ذوي الأداء العالي ويسمح لأرباب العمل بتوظيف موظفين جدد بمهارات جديدة

+ العمل عن بعد.. الوضع الطبيعي الجديد!

إلى جانب هذه المعادلة الصعبة التي تواجه أرباب الشركات الأمريكية، فرض العمل عن بعد نفسه باعتباره الوضع الطبيعي الجديد والإنجاز “الثمين” الذي يرغب الموظفون في الحفاظ عليه. ومع ذلك، فقد ثبت أن هذا الواقع الجديد مكلف، خاصة بالنسبة للشركات المتخصصة في فضاءات العمل المشتركة.

ففي مواجهة نقص الطلب على خدماتها، تقدمت شركة “وي وورك”، المملوكة للمستثمر الياباني “صوفت بنك”، بطلب إعلان إفلاسها يوم الاثنين لدى محكمة أمريكية، معلنة أنها أبرمت اتفاقية إعادة هيكلة مع الفاعلين الرئيسيين لتقليص ديونها الحالية بشكل كبير.

في هذا السياق، لا يستبعد المراقبون تأثير طريقة العمل الجديدة التي اعتمدتها الشركات في أعقاب جائحة كوفيد-19 وأسعار المكاتب الباهظة، خاصة في مدن مثل نيويورك وسان فرانسيسكو.

هذا الوضع تسبب في نزوح العديد من الشركات إلى وجهات أقل كلفة، خاصة في ولاية تكساس. إذ كشف تقرير لبلومبرغ أن ولايتي نيويورك وكاليفورنيا خسرتا ما يقرب من تريليون دولار منذ عام 2019 بسبب نزوح الشركات المالية إلى جنوب الولايات المتحدة.

وهكذا، فقدت أسواق العقارات التجارية أيضا، وفقا للمسح، مستأجرين “قيمين” في خضم مواجهتها للواقع الجديد الذي يفرضه العمل عن بعد.

سيكون على الخبراء، إذن، تتبع مآل هذه الاتجاهات الجديدة، وما إذا كانت ستستمر في قطاع رئيسي يرتبط ارتباطا وثيقا بأداء أكبر اقتصاد في العالم.

 

المصدر ميديا : و م ع 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد