وأنا احتسي قهوة الصباح، صباح يوم الأحد، واتصفح الرسائل الواردة علي في مختلف منصات التواصل الاجتماعي، لفت انتباهي رسالة مستعجلة من سيدة، تطلب فيها التواصل العاجل، لأنها تعاني من مشكل كبير، يعكر عليها صفو حياتها، ويجعلها على حافة الانهيار …
وتقول في رسالتها دكتور “ماءالعينين ” أنا محتاجة لحصص كوتشينغ مستعجلة …
أجبتها أن اليوم الأحد وأنا عادة أتجنب الشغل في هذا اليوم ولكن ممكن تعطيني فكرة عامة عن حالتك ونتواصل لاحقا لأخذ موعد الحصص …
سألتني هل يمكن الاتصال بي عن طريقة مكالمة هاتفية قصيرة لتعطيني فكرة مقتضبة بدل من الكتابة لأن الأمر فيه مشقة فوافقت …
اتصلت بي، وقدمت نفسها قائلة أنا اسمي “نوارة” وعمري 32 سنة متزوجة وزوجي اسمه “ياسر” وعندي ولدين وبنت، وأعمارهم “كريم” 13 و “عبد الرحمان” 11 و “صفية” الصغيرة ست سنوات .
تزوجت عن حب، وزوجي إنسان رائع، خلوق وحنون، يحترمني جدا، ويحسسني بأنني أهم ما في حياته، ولا يبخل علي بشيء خصوصا وأنني فضلت الجلوس في البيت والاعتناء بزوجي وأسرتي على العمل خارجه …
السنوات الأولى من حياتنا كانت كلها سعادة وهناء، وعلاقتنا يسودها التفاهم والانسجام، نفعل كل شيء معا، نمرح ونلهو في البيت كأطفال صغار، نطبخ معا، نشاهد أحلى البرامج وأجمل الأفلام والمسلسلات معا،
وغالبا ما نأكل في المطاعم ونرتاد المقاهي الراقية ونجوب أرجاء العالم في سفريات طويلة متى ما اتيحت لنا الفرصة، وكنا نسبح في أنهار من الحب والعشق العذب الجميل …
ومشكلتي بدأت منذ بضع سنوات، مع مقدم ابنائي إلى الدنيا، فأصبح من الصعب علي التوفيق بين تربيتهم والأعمال المنزلية وبين القيام بواجباتي كزوجة …
فالعناية بالصغار تتطلب مني مجهود كبير، وأولادي طبيعتهم صعبة، أعاني معهم كثيرا، لا يقبلون إلا أنواع قليلة من الطعام، وغالبا ما يرفضون الأكل الشطر الأكبر من النهار، ومن ناحية الدراسة، فهم لا يهتمون بها إطلاقا، ونتائجهم متدنية، وأما فيما يخص أحوالهم الأخرى، فغرفهم تعمها الفوضى، وملابسهم دائما متسخة، وهذا يستهلك كل طاقتي وقوتي ويؤثر على علاقتي بزوجي، حيث لم أعد أهتم به كما أول الأمر، وأصبحت علاقتنا يطبعها سوء التفاهم والتشنج الدائم، وأصبح يفضل قضاء أوقات فراغه خارج البيت، وبدأت تصلني إشاعات على أنه على تواصل مع سيدة أخرى، وهذا ما لا استيطع أن اتحمله بالمرة…
فمن فضلك دكتور ساعدني للخروج من هذه الدوامة …!
صمتت قليلا … وفجأة بدأت تبكي بحرقة وألم وبدأت تصرخ في الهاتف ولم أعد أفهم شيء من كلامها، وسمعت صوت شيء ارتطم بالأرض، فعم الهدوء الاجواء، لمدة بضع ثواني، فإذا بصوت آخر مختلف في الطرف الثاني من الخط يكلمني :
ألو إبني كيف حالك ؟ ان شاء الله أحوالكم طيبة، أنا والدة “نوارة” ولقد كانت تحدثك حتى فقدت الوعي، ولقد حملناها لسريرها لترتاح قليلا، وأعتذر منك بسبب الازعاج الذي تتسبنا فيه لك، فابنتي “نوارة” لم تعد كما كانت من قبل، فمنذ شهر أي منذ انطلاق الحرب التي يشنها الاحتلال هذه الأيام علينا هنا في القطاع، واستشهاد خطيبها “ياسر” بأحد المستشفيات التي تعرضت للقصف من طرف المحتل وهو من الطواقم الطبية، وقد كانت ابنتي مخطوبة ل”ياسر” منذ سنوات وكانت تجمعهما قصة حب كبيرة، وكانت تحلم بتأسيس أسرة والاستمتاع بحياة سعيدة معه لدرجة أنها كانت تتخيل كل تفاصيل حياتهما المستقبلية معا، والآن فقدت خطيبها ودخلت في هذه الحالة النفسية وأصبحت تهذي وتهلوس في انفصال تام عن الواقع، وتعتقد أنهما فعلا تزوجها، وانهما انجبا أطفال كما كانت تحكي لك على الهاتف …
فهي لم تصدق أن حلمها قد تم وأده في المهد … !
يا بني ادعوا لها ولنا بالحفظ والسلامة، وبدحر هذا العدو الغاشم الظالم، تقول لي أم “نوارة” ..
ودعتها بعد أن واسيتها ببضع كلمات وتمنيت لابنتها الشفاء العاجل، ولهم جميعا في تلك الأرض الصامدة السلامة …
وأنهيت المكالمة وأنا أقول مع نفسي، يا لها من قسوة ويا له من جبروت !
بأي منطق يتحد كل هذا العالم بشرقه وغربه، وإعلامه، وأعلامه، وقادته ورجالات السياسة فيه، من اليمين واليسار والوسط والفوق والتحت، بماله وعُدَّتِهِ وعتاده …
كل هذا العالم يتحد ويجهض آمال وأحلام بسيطة … !
أحلام “نوارة” وشعب “نوارة” … !
وإلى الاسبوع المقبل.
كتب : الدكتور سعد ماء العينين